د.طه جابر العلواني
الإبداع من «أَبْدَعَ» إذا أوجد شيئًا لا على مثال سابق، ومنه اشتقت «البدعة» باعتبارها أمرًا يقوم الإنسان به دون استناد إلى أصل شرعي، أو دليل معتبر، وإذا تجاوزنا الجانب السلبيَّ المتعلِّق «بالبدعة» منه؛ لأنَّه غير ما نتحدث عنه، نجد «الإبداع» صفة في غاية الأهميَّة، عمل الإسلام على أن يجعل منها خصيصة عامة شاملة، يتَّصف بها كل مسلم ومسلمة، في مواجهة سائر شؤون الحياة وشجونها وتحديَّاتها المتشعِّبة.
وحين نُعمل «الرؤية الكليَّة» التي بناها القرآن، نجد الحياة الدنيا هي المرحلة الوحيدة، من بين مراحل عدة ممتدة من «عالم الذر والعهد» حتى «عالم الجنَّة أو النار»، فمرحلة الحياة الدنيا يجد الإنسان نفسه فيها مكلَّفًا ومسؤولا ومستخلفًا ومؤتمنًا ومبتلى.
وقد سُخِّر الكون -كله- لتمكينه من القيام بهذه المسؤوليات والأعباء الضخمة، وفي كل هذه الأمور هو في حاجة لاستنفار طاقاته كلها: العقليَّة والنفسيَّة والبدنيَّة؛ ليتمكن من القيام بالجهود التي تتطلبها هذه المهام، فما من شيء منها إلا وهو في حاجة إلى الإنسان في كينونته وكلِّيته وجميع طاقاته. والتحديَّات التي تطرحها عليه هذه المهام الكبرى، مهام الاستخلاف والائتمان والابتلاء، فهي تحتاج منه -للقيام بها- قدرة إبداعيَّة عالية، والقدرة الإبداعيَّة يحتاجها وهو يخطط للقيام بهذه المهام، وفقًا لقدراته ومعطيات بيئته وسائر ظروفه، ليُوقعها على أتم وأحسن وجه؛ بحيث تتحقق بها غايات الحق من الخلق، وتُتقَن وتؤدَّى على الوجه الذي ينبغي أن تكون عليه، وبدون ذلك فإنَّ الإنسان قد يقصِّر لأنَّه لا يجد بين يديه كلَّ شيء جاهزًا، بحيث يمكنه أن يقلد فيه ويتابع ويحقق ما يُريد بمجرد المتابعة والتقليد، فلا غنى إذن عن التحلِّي بالقدرة الإبداعيَّة، التي من شأنها أن تجعل الإنسان قادرًا على إعداد الوسائل والأسباب، ومعرفة العلل والحكم والمقاصد والغايات، وطرق الفهم والفقه والتمثُّل والأداء، وكل منها لا يمكن تحقيقه بدون الإبداع وتفعيل الطاقات الإبداعيَّة للإنسان.
والنظر العقليُّ في الكون والوجود وفي الأنفس والآفاق، لا يمكن القيام به دون تحلٍّ بالطاقات والقدرات الإبداعيَّة، ومثله القيام باستقراء أدلة الخلق على الحق، مثل دليل الخلق والإبداع، ودليل العناية والرعاية، ودليل ضبط النِّسب والسُّنَن والموازين، كل تلك الأمور في حاجة إلى استحضار الطاقة الإبداعيَّة، فالطاقة الإبداعيَّة بحدِّ ذاتها مطلب شرعيٌّ ومقصد إيمانيٌّ، لا يعذر القادر على تحقيقه به بالتخلي عنه أو عدم اتخاذ ما يلزم لتحقيقه.
و«الإبداع صِنْوُ الاجتهاد»، ورديف له، من الصعب أن ينفكَّ أي منهما عن الآخر. وإذا كان الشارع لم يكثر من استعماله، إكثاره من استعمال مفهوم «الاجتهاد»، فلأنَّ الاجتهاد أعمُّ منه، يشملُه ويستوعبه ويتجاوزه إلى آفاق أخرى، «فالاجتهاد» عرَّفوه بأنَّه: «بذل الجهد العقليِّ والنفسيِّ للوصول إلى ظنٍّ بحكم شرعيٍّ، حتى يعجز المجتهد عن بذل المزيد»، لكن الاجتهاد في مادته اللُّغوية عامٌّ شامل، حيث تحتاج أمور هذه الحياة المختلفة أن يبذل الإنسان كل ما لديه من طاقة عقليَّة ونفسيَّة لمعالجتها، وللوصول إلى تصورات سليمة حول كل منها، عندما تواجهه في أيِّ مرحلة من مراحل حياته الطويلة الممتدة، سواء تعلَّق هذا الاجتهاد بحكم شرعيٍّ أو عقليٍّ أو طبيعيٍّ؛ ولذلك فإنَّ تخصيص الأصوليِّين له بالظنِّ بالحكم الشرعيِّ هو اصطلاح لهم لا يُزيل عن الاجتهاد بقيَّة معانيه، ولا يغلق بوجهه الميادين الأخرى التي يمكن أن ينفتح عليها؛ ولذلك قلنا: بأنَّه صنو الإبداع، وأنَّ الإبداع صنوه ورديفه. فالإبداع والاجتهاد -كل منهما أو هما معًا- يتعاضدان لتجنيد جميع الطاقات العقليَّة والنفسيَّة الإنسانيَّة، لبناء تصورات تمكِّن الإنسان من أداء دوره المرسوم في هذه الحياة، وتساعده على تحقيق غاية الحق من خلقه وغاية إيجاده فيها.
والاجتهاد والإبداع ضروريَّان لتحقيق بناء الحياة الطيِّبة، القائمة على تحقيق مقاصد الشارع الحكيم ودوام ازدهارها وتألقها، كما أنهما ضروريان لتحقيق قيمة التزكية في الإنسان، ولتحقيق قيمة العمران كذلك؛ إذ لا يمكن تصور الوصول إلى هذه القيم الحاكمة وتحويلها إلى واقع تستظل الحياة بوارف ظلاله دون الاجتهاد والإبداع، وحين يطول بالناس الأمد وتقسو منهم القلوب، وتؤثر هذه العوامل مع غيرها في مسيرة الحياة وعمرانها، وزكاة النفوس وطهارتها، فإنَّ تجديد الحياة وإعادة بنائها وبناء ما تهدم من عمرانها، أو تقادم من أركانها ومقوماتها، يعتمد على إمكانات التجديد والكشف عن إمكانات التجديد، ومعرفة مناهج إعمال هذه الإمكانات وتوظيفها يتوقف على الاجتهاد والإبداع، وهنا يبرز «التجديد» باعتباره نتيجة وثمرة للاجتهاد والإبداع، فالتجديد مفهوم آخر من المفاهيم المفتاحيَّة الكبرى، نحتاج إليه في تجديد الدين، بمعنى تجديد فهمه، وإعادة بناء مناهج الرجوع إلى مصادره الأساسيَّة والنهل منها، وإعادة بناء الأولويَّات، ومن ثَمَّ فقه الحياة واستئناف السير فيها على هدى وبيِّنة، ذلك كله يتوقف على التجديد، والتجديد لا يمكن أن يتم بدون اجتهاد وإبداع، من هنا يتضح أنَّنا أمام منظومة متكاملة هي الاجتهاد والإبداع والتجديد؛ يأخذكل منها بحُجْزِ الآخر لتحقق معًا غاياتها وأهدافها.
وقد عُني القرآن منذ بدء النـزول، كما عُني رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه- ببناء الصدر الأول، جيل التلقِّي، والحملة الأُول لرسالة الإسلام، وفقًا لهذه المنظومة المتلازمة التي استطاعت أن توجد ذلك الجيل المتَّبع دون تقليد، والمبدع دون تجاوز، والمجتهد دون افتئات، والمجدد دون تهوُّر أو تبديد؛ فكان جيلاً مثاليًّا نموذجيًّا، عرف كيف يواجه أمور الحياة وتحدياتها، فلم يَعُدِ العَدَدُ والكمُّ كل شيء في الحياة، ولم تعد الطاقة الماديَّة صاحبة الشأن الأكبر، فهذه الطاقة الماديَّة لها حسابها، ولكن الحساب الأكبر في ذلك الجيل كان للقدرات العقليَّة، والطاقات النفسيَّة التي تنبثق عنها الإرادة والفاعليَّة، وتستظل كلها بعد ذلك بالشرعيَّة القرآنيَّة.
من هنا جاء القرآن المجيد يطالب المسلمين بأن يقف الواحد منهم بوجه عشرة من أعداء الحق والخير، ودعاة الجمود على الآبائيَّة والتقليد للشيطان، وعلَّل ذلك بأنَّهم قوم لا يفقهون، وعدم الفقه هذا ناجم عن تعطيل العقول، وإعفائها من مسؤولياتها، وبدلاً من توظيف العقول قلَّد هؤلاء -الذين لا يفقهون- آباءهم، وجمدوا على الماضي، واتّبعوا الشيطان حتى أصبحوا من أوليائه: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ (الحج:4)، وكأنَّ القرآن الكريم يُبَيِّنُ أنَّ هذا الفارق الكبير، المعلّل بعدم الفقه عند أعدائهم، يعني أن المؤمنين المسلمين قوم يفقهون، ولأنهم يفقهون استحقوا الغلبة والنصر، وأن تقاس طاقة الواحد منهم بعشر من مخالفيهم، وبعد التخفيف استقر الأمر على أن المؤمن الواحد يعدل اثنين من أولئك الذين لا يفقهون، والفقه هنا مفهوم شامل للفقه في الحياة بشكل تام وكامل، فهو فقه أكبر، وفهم في سائر شؤون الحياة وقضاياها.
وحين يتفوق جيش مزوَّد بأحدث أنواع الأسلحة، يقوده ذوو خبرة ودراية في فنون القتال المعاصرة، على جيش آخر أسلحته قديمة بالية، تجاوزها الزمن، يقوده قادة لا يعرفون من القتال شيئًا؛ فذلك يعني: تفوق الأكفأ والأفقه على من هو أقل منه كفاءة وفقهًا، وقد يقول قائل: وماذا عن الإيمان؟ ووعد الله المؤمنين بالنصر؛ فتقول: إنَّ للإيمان آثاره ولا شك، ولكن الإيمان ليؤثِّر لا بد من توافر شروط التأثير؛ ومنها التساوي أو التقارب في الشروط المؤدِّية إلى النصر والتفوق، ليصبح «الإيمان» عنصر ترجيح وعاملاً إضافيًّا في تحقيق النصر؛ ولذلك أمر الله -تعالى- بإعداد العدد، واتخاذ الحيطة والحذر؛ ولتعليم المؤمنين ذلك شرع الله تعالى «صلاة الخوف»: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾ (النساء:102)، إنَّ هذه الآية الكريمة تعلِّم المسلمين دروسًا لا تحصى، وفقهًا واسعًا لا يمكن استيفاؤه أو استخلاصه من موسوعات كبيرة ومدونات موسَّعة، فهي تعلِّم المسلم أولا: إنَّ لهذا الكون سننًا وقوانين وأسبابًا لا بد من ملاحظتها ومراعاتها وتوظيفها، وأنَّ هذه السنن لا تُحابي أحدًا -بما في ذلك الرسل والأنبياء- فالجماعة أو الأمَّة التي يقودها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وإن كان الرسول ذاته يتمتع بالحماية الإلهيَّة والعصمة من الناس، فإنَّ المؤمنين به لا بد لهم وهم بقيادته من اتخاذ كل أسباب الحماية والحيطة والحذر، وما لم يفعلوا فإنَّ أعداءهم قد ينالون منهم ويميلون عليهم ميلة واحدة، مع إيمانهم بالله وكفر خصومهم وأعدائهم به.
ثانيًا: فقه الأمن وما يقتضيه من مرونة شاملة، بما في ذلك تعديل هيئة الصلاة المفروضة لعدم إعطاء أيَّة فرصة لأعداء الأمَّة للنيل من أبنائها.
ثالثًا: الارتباط الوثيق بين ذكر الله -تعالى- وتسخير السنن والطبيعة، فكأنَّ الذكر الدائم لله من العبد المؤمن يحمل مفاتيح التسخير، فكلما أطاع الإنسان الله –تعالى- وذكره واستحضر عظمته امتلك ناصية المسخرات، فيلين له الحديد، ويسخر الريح وتمده الطبيعة بجنود لا يعلمها إلا هو، أما إذا عصى وتمرد فإنَّ المسخرات الطبيعية تتمرَّد عليه.
فنحن أمام فقه إبداعيٍّ يقتضي عقولاً تفقه الكون وسننه والاجتماع الإنساني وقوانينه، وتبدع في إطار تلك القوانين والسنن؛ والله الموفق.