أ.د/ طه جابر العلواني
حاولت في الحلقتين الأولى والثانية من هذه المقالة أن أنبه إلى الجذور التاريخيَّة لحركة داعش التي وجدتها في القرامطة وفكرهم وفلسفتهم وسلوكيَّاتهم، وقد شرحت ذلك في هاتين الحلقتين بما يكفي، وحين نفهم العلاقة بين الظواهر الجديدة والقديمة نكتشف مجموعة من القضايا:
القضيَّة الأولى:
ادِّعاء الارتباط بالإسلام دون أن يكون لذلك في العقول والقلوب والوجدان والسلوك أي أثر لتلك العلاقة المدَّعاة في التعامل مع الإنسان، سواء أكان منهم أو من غيرهم. فهم مدَّعون لذلك الانتماء غير صادقين فيه، وليسوا مخلصين له، وإلا لحجزهم هذا الانتماء -لو كان صادقًا- عن القيام بتلك الجرائم البشعة، التي لا يقرها أي دليل من كتاب الله (جل وعلا)، ولا من هدي رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا من هدي أصحابه وآل بيته –رضوان الله عنهم أجمعين.
قتل البريء لم يأذن به الله (سبحانه وتعالى)، ولا رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يقم أي دليل أو قرينة أو أمارة على جواز ذلك بأي حال من الأحوال.
وقد تضافرت آيات الكتاب الكريم على احترام الدم الإنساني الذي لا يجوز أن يراق إلا بحقه، وذلك ينحصر بممارسة قتل الآخرين مع إصرار أولياء الدم على قتل قاتله، وكذلك الإفساد في الأرض بأشكال كثيرة، تعرض لها القرآن المجيد، وبيَّنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فجرأتهم على الدماء، واستهتارهم لقتل الأبرياء لمجرد لفت النظر وإثارة الاهتمام العالمي بهم أمر لا يقره ولا يبيحه دليل ولا قرينة ولا أمارة ولا أثارة من علم، وكذلك القتل بحجة ارتكاب الكبائر أو عدم الصلاة.
القضيَّة الثانية:
أنَّهم اعتبروا قائدهم أيًا كان خليفة حق على الناس كافَّة أن يبايعوه ويتقبلوا إمارته وخلافته، مادام أولئك الدواعش قد ارتضوه لأنفسهم وارتضوه للآخرين كذلك، فإنَّ أقصى ما يمكن أن يقال في اختيارهم لقادتهم أنَّهم قد اجتهدوا في اختيارهم وتبنوهم ونصبوهم على تنظيماتهم، وهذا اختيار لهم لا يختلف عن أي اختيار حزبي أو عصابي أو فئوي، عندما يختار حزب ما من بينهم لأنفسهم رأسًا يسمونه ما شاءوا، ولا يلزم اختيارهم أي أحد سواهم، وهم في ذلك مذنبون؛ لأنَّهم يفتاتون بذلك على الأمَّة وسائر المنتمين إليها، والإفتئات أمر لا يقبل ولا يبيحه الدين ولا الشرع بل هو جريمة يعاقب عليها المفتات المستبد.
وهؤلاء ينطبق عليهم قول الكميت الأسدي:
يرون لهم حقًا على الناس واجبًا *** سفاهًا وحق الهاشميين أوجب.
ولذلك وبناء على افتئاتهم ذاك وخيالهم أباحوا لأنفسهم أن يعتبروا لأنفسهم وحدهم الأمَّة المسلمة، وأنَّ كل من عاداهم ولم ينضم إلى تنظيمهم ولم يبايع رأسهم خارج عن الجماعة مفارق لها رافض للبيعة ولمن رشحوه، وهذا فهم عجيب. ولو عقل هؤلاء أو مفتوهم لعلموا أنَّ من الممكن أن يأتي عشرات التنظيمات المندفعة نحو الافتئات على الأمَّة، فيستبيحون منهم كل ما استباحه الداعشيُّون من سواهم، ويبيحون قتلهم وسبي ذراريهم، واسترقاق نسائهم وأبنائهم، وهكذا.
القضيَّة الثالثة:
أنَّهم يتمسكون بحديث يدَّعون صحته وفيه عند المحدثين مقال، ومجال للجدل كبير، هو حديث: “يا معشر قريش لقد جئتكم بالذبح” فهو دليل هؤلاء على الذبح بالسكاكين لمن يخالفونهم، وهذا الحديث جاء على معارضة القرآن المجيد، فالقرآن يقول في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء:107)، فكيف يكون من جاء بالرحمة يأتي الناس بالذبح، كما أنَّ الله (جل شأنه) وصف رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: ﴿َقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة:128)، فكيف يكون الرؤوف الرحيم الذي يعز عليه أن يعاني أحد من الناس العنت أو الشدة والضيق ويبلغ من حرصه على الناس أن يقول الله (جل شأنه): ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ (الكهف:6)، ويقول له: ﴿وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ﴾ (النمل:81)، ويقول له: ﴿.. فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ..﴾ (الكهف:29)، وينفي عنه مبدأ الصيطرة والتجبر ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية:22)، ﴿.. وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ..﴾ (ق:45)، ويقول له: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران:159) ، وإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد جاء قريشًا بالذبح فلما قال لهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء” عندما فتح مكة، ولما قبل الدخول في صلح الحديبية الذي كاد يتحول إلى فتنة بين أصحابه وأزمة داخليَّة كبيرة، يقول الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- بتقديم ظواهر القرآن على الحديث أيًا كان، فيقول صاحب هذا العقل النادر: “لقد علمنا أنَّ الله (عز وجل) إنَّما بعث رسوله رحمة، ليجمع به الفرقة، وليزيد الألفة ولم يبعثه ليفرق الكلمة، ويحرش المسلمين بعضهم على بعض”.
وحين قيل له -يرحمه الله: إنَّنا نروي أحاديث صحت لدينا، ونتبعها كما سمعناها، فيرد أبو حنيفة عليهم بقوله: “ويل لهم، ما أقل اهتمامهم بأمر عاقبتهم، حين ينتصبون للناس، فيحدثونهم بما قد علموا أنَّه معارض لظاهر الكتاب، وآنذاك يكون العمل به ضلالة. فيقال له: ألا تخشى أن تكون في ذلك ممن يرد السنة، أو ينفيها فأجاب -رحمه الله: إنَّني إنَّما أكذب هؤلاء ولا يكون تكذيبي لهؤلاء وردي عليهم تكذيبًا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنا مؤمن بكل ما تكلم به النبي، غير أنَّ النبي لم يخالف القرآن في شيء، فهو منزه عن مخالفة القرآن؛ لأنَّه لو خالف القرآن يكون قد تقوَّل على الله غير الحق، ولا يدعه الله في هذه الحالة حتى يأخذه باليمين ويقطع منه الوتين ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقة:44-47)، ونبي الله لا يخالف كتاب الله (تعالى)، ومخالف كتاب الله لا يكون نبي الله، وهذا الذي رووه خلاف القرآن”.
إنَّ هذا الحديث الذي يتمسك به الداعشيُّون فيذبحون من يقع بين أيديهم بأقل من ذبح النعاج، لم يرد إلا في موضعين، هما مسند أحمد وجامع ابن حبان، ولم يرو إلا من طريق واحد فقط، تفرد به إبراهيم بن سعد وهو مدلس معنعن لا تقبل روايته، وباقي إسناده ورجاله في كل منهم كلام.
إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أثبت طيلة حياته أنَّه ما جاء الناس بالذبح، انظر كيف يعاتبه القرآن المجيد حين فادى أسرى قريش قال له (جل شأنه): ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال:67)، وحين كان يستغفر للمنافقين قال له (جل شأنه): ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة:80)، فروي عنه أنَّه قال: “والله لأزيدن على السبعين”، إلى أن نهاه الله نهيًا قاطعًا عن ذلك، فأين هي النزعة الدمويَّة لدى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنَّه رسول الرحمة، ورسالته كلها رحمة، ومثل هذه الأحاديث قد دست لنزع صفات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي جاءت في التوراة والإنجيل عنه وإبدالها بصفات تسمح بإبقاء الباب مفتوحًا لمشايا يهودي يأتي بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) من اللاويين من بني إسرائيل، وإلى مسيح يأتي بعده أو ينزل مرة أخرى كما في عقيدة النصارى، والله (جل شأنه) قد نص على أنَّ محمد خاتم النبيين لا نبي بعده، وأنَّ ما يبقى بعده هو ذلك القرآن الذي يحمل رسالات النبيين كافَّة، فإن نحن تمسكنا به لن نضل بعده أبدا.
إنَّه لا يليق بمسلم أن يقبل حديثًا يخالف كتاب الله، ويحتاج الجميع أن يؤمنوا بأنَّ كل ما صح من سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستحيل أن تخالف كتاب الله فما جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالذبح، بل جاء بالهدى ودين الحق، جاء الناس ليتلوا عليهم الكتاب ويعلمهم إياه ويزكيهم به، لا ليقتلهم، ولا ليذبحهم، ولا ليستبيح أبشارهم وأعراضهم ونساءهم وأموالهم.
أمَّا هؤلاء الذين يلتحقون بالداعشيين من أبناء أوروبا وأمريكا فتلك قصة أخرى، فالشباب في الغرب يعانون من أمراض مختلفة منذ أن بدأت أزمات الشباب، وثورات الشباب هناك، التي ارتبطت بنظام الحياة والتربية والتعليم والثقافة في الغرب، فالشباب هناك يتعطشون إلى هُويَّة وانتماء، وقد عجزت ظروف الحياة في الغرب أن تمنحهم الهُويَّة والانتماء، فأخذوا ينتمون إلى تجمعات يختلقونها، وزادت أزماتهم ضيقهم وضجرهم من الحياة الأمريكيَّة والأوروبيَّة الصاخبة التي حولت الإنسان إلى وسيلة وتجاهلت كرامته، وقداسته، لتجعل منه مجرد مجموعة من المواد الكيماويَّة يمكن أن تشترى من الصيدليَّات بما لا يزيد عن عشرة دولار، وتلك الأفكار والتحولات جعلت الشاب الغربي كثيرًا ما يضيق بحياته ويذهب إلى سحر الشرق والمغرب كموريتانيا وبلدان أفريقيَّة مختلفة، فحين ينتمي إلى الإسلام على أيدي بعض الدعاة من هذه التجمعات المنحرفة يجد فيها تنفيسًا لطاقاته، وشحذًا لقدراته، وانتماء وهوية وجماعة تعوضه عن الأسرة المفككة، والانتماء إلى مجتمعات جعلت منه ذرة تائهة في الفضاء، فيسارع إلى الانتماء إلى هذه التجمعات ويجد نفسه فيها، وينفس عن طاقاته وقدراته مع وعود كثيرة بالجنة، وما أدراك ما الجنة، فيندفعون مع هؤلاء.
لعلني بهذه العجالة بحلقاتها الثلاث قد أديت أمانتي نحو شبابنا وأوضحت لهم ما ينبغي أن يفهموه عن داعش والداعشيَّة قبل فوات الأوان، وقبل أن يعضوا أصابع الندم، ولات حين مندم.