أ.د/ طه جابر العلواني
هناك حكمة قالها أبو الطيب المتنبي:
ومن يجعل الضرغام بازًا لصيده *** تصيده الضرغام فيما تصيدا.
ألِف هواة الصيد بالحيوان أن يصطادوا بالطيور الكاسرة وبالكلاب المعلمة، فيصطاد النسر والصقر والعقاب والكلاب المدربة لأصحابهم، ومن أجل أصحابهم، ولم يعرف أحد اتخذ من الأسد أو النمر بديلًا عن كلاب الصيد؛ لأنَّ الأسد أو النمر إنَّما يهاجمان ويصطادان لأنفسهما ولصغارهما، فلو فرض أنَّ أحدًا اتخذ من الأسد أو فصيلة النمور بديلًا عن حيوانات الصيد لعد سفيهًا متهورًا لا يبالي بالخطر، لكن ذلك الفعل المستهجن قد سقطت فيه الولايات المتحدة، وأسقطت فيه بعض أصدقائها في منطقتنا، فجراح ﭬـيتنام التي أثرت في الجسم الأمريكي والذاكرة الأمريكيَّة وجعلت من أمريكا في مرحلة الستينيَّات من القرن الماضي مثل الذئب الجريح؛ دفعتها لأن تأثر لنفسها وتنتقم من الاتحاد السوﭬـيتي المنهار، وتقوم بتفكيكه تفكيكًا تامًا، وإعلان شهادة وفاته؛ فعمدت إلى أفغانستان، واستدرجت بواسطة الحزب الشيوعي الأفغاني روسيا إلى السقوط في المستنقع الأفغاني، وابتلعت روسيا الطعم وتورطت في أفغانستان متوهمة أنَّ الحفنة الشيوعيَّة فيها سوف تسلمها على طبق من ذهب أو فضة أقوى وأعصى وأقسى وأمنع بلد من بلدان المنطقة ألا وهي أفغانستان.
وأفغانستان لها في الذاكرة الإسرائيليَّة والأمريكيَّة موقع خاص، فحين دخل الإسرائيليون في حزيران/يونيو 1976 بقيَّة أراضي فلسطين ومنها القدس نزلت قبائل أفغانيَّة بأكملها إلى العاصمة كابول، وحاصرت الحكومة لمدة قاربت أسبوعًا للضغط عليها لفتح باب الجهاد وإرسال المجاهدين إلى القدس لتحريرها، لما لذلك البلد وشعبه من حماسة دينيَّة، وشجاعة وعنفوان، وطاقات معروفة تاريخيًّا على القتال والصبر على الأقران، وإسرائيل لا تنس أي أحد يمكن أن يشكل عليها خطرًا، لا في الحال وفي المستقبل، كما أنَّ من أخلاقها الانتقام من أعدائها الماضين حتى لو فصلتها عن ذلك التاريخ آلاف السنين، فقد حقدت على العراق أو أرض بابل، ولم تنته منه حتى مزقته بيدي ابنها البار بول ولف واتس، الذي قرر تدمير العراق وخطط له، وزور مع أعوانه مستندات كثيرة لإقناع البيت الأبيض والكونجرس والأمم المتحدة بضرورة غزو العراق، وظل مكرسًا فترة وجوده نائبًا لوزير الدفاع في الولايات المتحدة، ووجود خليلته الإيرانيَّة لهذا الهدف، حتى انتهى العراق ولا عراق بعده، وظلت الذاكرة الإسرائيليَّة تتطلع إلى يوم تجعل من مصر فيه عراقًا آخر في انهياره وتمزقه، لكن مصر شيء والعراق شيء آخر، ونسأل الله (جل شأنه) أن يخيب آمالهم في سائر جهودهم ضدها، فلا يتكرر النموذج العراقي.
نعود إلى القرامطة الجدد، بعد أن دخل الشيوعيون والروس إلى أفغانستان وصاروا داخل المصيدة قام بريجنسكي بزيارة وجولة في منطقة الشرق الأوسط، وأصر حين زار مصر أن يذهب إلى خان الخليلي وعلى أن يصور فيها، وقد أُخذت له صورة وهو يمسك بمسبحة وتحت كرسيه سجادة صلاة، وحينما يأخذ رجل مثل هذا صورة بهذا الشكل فإنَّ فيها إيحاءات جمة، ورسائل سياسيَّة كثيرة، يفهمها من يفهمها، ويجهلها من يجهلها، وقد فهمها القليلون جدًا من العرب المسلمين في المنطقة، وقلنا في حينه: “ويل للمسلمين من شر قد اقترب”، وإذا ببريجنسكي يقنع بعض دول المنطقة بأن تشترك مع أمريكا فهي تدفع دولار وأمريكا تدفع دولارًا، وحاصل ما يدفعه الفريقان يجهز فيه المجاهدون الذين يجاهدون في أفغانستان من أبنائها ومن الوافدين، وقام الشركاء العرب بالدعوة إلى الجهاد لتحرير أفغانستان من الشيوعيَّة والإلحاد، وتعالت أصوات الدعاة الذين لم يكونوا يعرفون ما وراء الأكمة بضرورة الجهاد في أفغانستان، وأنَّ أجر المجاهدين فيها لا يقل عن أجر البدريين ومجاهدي غزوة أحد أيضًا، وبدأت الطائرات تنقل أفواجًا من الشباب الذي يتطلع إلى أن يذهب إلى الجنة بأقصر الطرق، ويتخلص من حياة كئيبة في ظل عدم تكافؤ الفرص وانعدام العدل والاستبداد والفقر والجهل والمرض والسفه والتبديد والتبذير وما إلى ذلك، وبدأنا نرى في مختلف العواصم العربيَّة والإسلاميَّة طاقيَّة الوبر والصوف الأفغانيَّة المعروفة، والقميص والسروال الأفغاني يرتديها الشباب الذين يذهبون إلى أفغانستان، وقد يعودون إلى بلدانهم في إجازات وبتسهيلات من خطوط جويَّة عربيَّة، وجمعيَّات كثيرة، وتكونت القاعدة، قاعدة الجهاد كما يسمونها هناك، وجيء بالشباب المسلم لفيفًا؛ ليوضعوا في أفغانستان متخذين من بشاور وباكستان بصفة عامَّة محطات تجمُّع وانطلاق إلى الداخل الأفغاني، وبرزت القاعدة وطالبان، وأسماء كثيرة لفصائل عديدة.
وصارت أسماء مثل بن لادن والظواهري وعبد الله عزام تتردد كثيرًا بين أولئك الشباب، وانتشر اليونيفورم الأفغاني في سائر البلدان، فمن حرم الجهاد في أفغانستان فليتشبه بالمجاهدين وليرتدي تلك الطاقية والسراويل الأفغانيَّة، وقيل في حينها: إنَّ أمريكا كانت تشجع أولئك القادة الذين يجمعون الشباب ويجندونهم ويدربونهم ويزجون بهم في أتون أفغانستان لتدمير الشيوعية وعودًا سخيَّة، قيل: إنَّ ابن لادن وعد بأن يكون له شأن في السعوديَّة، وقد يكون في المستقبل جزءًا من مراكز القوى فيها، وقيل للظاهري أن يعد نفسه لخلافة حسني مبارك، وقيل لعبد الله عزام أنَّهم سيعينونه على تحرير أجزاء من فلسطين، وقيل وقيل ..، واندفع الشباب وسقط الاتحاد السوﭬـيتي في أفغانستان، وتفكك في خارج أفغانستان وأعلنت شهادة وفاته، وتنفست أمريكا الصعداء، فقد أنهت على غريمها القطب الثاني من النظام القطبي الذي كان، وبقيت قطبًا منفردًا، بمثابة لوري كبير ثنائي يقوده سائق إسرائيلي ماهر في قيادة مثل هذه اللوريهات المزدوجة ويقتحم بهما ما يشاء من حصون أعدائه، وأصبح شُركاء أمريكا الذين كانوا يمزجون البترودولار مع أنكل سام، ليجدوا أن بلدانهم قد ملئت بأصحاب الطواقي الأفغانيَّة المدربون على القتال وعلى الكر والفر، والمترعون بآمال الجهاد وحماس المجاهدين وتطلعات الراغبين بالحسنيين، لا بواحد منهما: حكم بلدنهم والتمكن منها، والحصول على الجنة في الآخرة.
وهنا اكتشف أولئك الشباب وقياداتهم أنَّ مسبحة بريجنكسي وسجادته لم تكن إلا جزءًا من أسلحة الخداع التي استعملت لتجنيدهم ثم تدميرهم، ومرارة الشعور بالخديعة مرارة قاتلة، جعلتهم في حالة عداء ورغبة شديدة للانتقام من أمريكا، التي نكثت بكل وعودها لهم، وتركتهم نهبًا لأنظمة مستبدة تحرضها عليهم ليل نهار، وتمدها بالأسلحة والمعلومات؛ لكي يحاصر تلك التنظيمات ويقضوا عليها في أفغانستان وخارجها، ونشط الاستشراق الإسرائيلي، وهو استشراق خطير، لو جمعنا سائر جهود المستشرقين في القرنين الماضيين وقارنا بينه وبينها لوجدنا الاستشراق الإسرائيلي يرجح على كل جهود المستشرقين ويزيد عليها، فالاستشراق الإسرائيلي قد نبش التاريخ العربي الإسلامي نبشًا أشبه بنبش الخنزير لأكوام القمامة، بحثًا عن أسوأ ما فيه، ذلك لأنَّ حماية إسرائيل لا يمكن أن تتم إلا بتحطيم وتفكيك من حولها، هكذا قالت التوراة فيما مضى، وهكذا يرى الاستشراق الإسرائيلي اليوم.
وسواء وقعت اتفاقات سلام أم لم توقع، أعلنت يهوديَّة الدولة أم لم تعلن؛ فإنَّ ذلك لا يمنع من أن تقوم إسرائيل بالدفاع عن نفسها بتفكيك وتمزيق وتشتيت جميع البلدان حولها، خاصَّة تلك التي لها حدود معها أو مع بلدان محاددة لها، فككت سوريا، والعراق، ولا تألو جهدًا في محاربة مصر وتمزيقها -نسأل الله أن يخيب آمالها- وأنظارها تتجه نحو السعوديَّة وبلدان الخليج، ولا مانع لديها أن تهادن إيران إلى حين؛ لتنقض عليها بعد ذلك، وأن تغض الطرف لوقت محدود عن تركيا، لكن على أن لا تقترب من الخطوط الحمراء في أوروبا بالانضمام إلى المجموعة الأوروبيَّة، ولا في المنطقة العربية لتحيي ما اعتبرته قد انتهى من توحد العرب سواء وحدهم أو في ظل العثمانيين.
وإذا كان التآمر والاستشراق القديم قد ولد الاتجاه الصفوي ليطوق الدولة العثمانيَّة التي كانت تعمل على الوصول إلى أوروبا وقد احتلت وسطها ودخلت ﭬـينا عاصمة النمسا، فإنَّ تركيا الجديدة ينبغي أن تكون دائمًا في حالة صراع مع إيران لأنَّه لو اتفقت إيران وتركيا ومصر والسعوديَّة أي نوع من أنواع الاتفاقات المتينة فذلك يعني أنَّ على إسرائيل أن تبدأ بالتهيؤ لشد الرحال إلى وطن بديل، فالدول الأربعة يمكن أن تمثِّل ثقلًا إقليميًّا إذا أضيفت إليها باكستان وأفغانستان، فآنذاك عليها أن تشد الرحال إلى الوطن البديل الذي يجري إعداده في الغرب الإسلامي.
تلك هي الصورة التي تبرز فيها فصائل الداعشيين، وتستقطب إليها بقايا القاعدة، وسائر عناصر الاندفاع والتعصب والتطرف، والبحث ولو بالخيال عن أقصر الطرق إلى الحسنيين السلطة ثم الجنة، وتبدأ داعش بأن تهاجم البلدان العربيَّة والمسلمة في عقر دارها، وتستولي على أراض تجرب سلطانها فيها، وتسومها سوء العذاب، وتستحيي من التراث ما مهر الاستشراق الإسرائيلي باستحيائه وتوصيله بالطرق المختلفة إلى هؤلاء.
وهذه التجمعات كلها تجمعات مخترقة، اخترقت بمثل الطريق الذي اخترق به حزب البعث في سوريا حين وصل كوهين إلى مستوى النائب الأول، فأصبحت لها رئاسات وقيادات توجهها من الداخل إلى حيث تخدم الأغراض الإسرائيليَّة، والأهداف الإمبرياليَّة، وتعجِّل بهدم بقايا الكيانات العربيَّة والإسلاميَّة، وذلك تفسير ما يجري.
فهل من حلول؟.