أ.د/ طه جابر العلواني
أعلنت داعش أنَّها قد عينت أميرًا لمكة وآخر للمدينة من رجالها، وقد ذكَّرني ذلك بالقرامطة ودولتهم، وذهابهم إلى مكة، وسرقتهم للحجر الأسود الذي لم يستطع المسلمون أن يستعيدوه منهم إلا بعد اثنين وعشرين عامًا.
يتعامل الناس مع داعش اليوم على أنَّها حركة حديثة نشأت في ظل ظروف التمزق في كل من العراق وسوريا، التي قد تكون نبهت أذهان بعض الشباب إلى أنَّ في مقدورهم في ظل التمزق السائد والمنتظر أن ينفسوا عن رغباتهم ويتجاوزوا حالات الاحتقان السائدة في المنطقة منذ قيام دولة إسرائيل فيها، وخوض الحروب معهًا في كل عشر سنوات أو ثمان، ولم أجد من التفت إلى أنَّ ظاهرة داعش لها جذور تاريخيَّة وسوابق في ذات المناطق التي تأسست فيها داعش المعاصرة، مع أنَّ الارتباط بين تلك الجذور والداعشيَّة المعاصرة ارتباط لا يخفى على باحث متأمل.
أذكر أنَّني قرأت منذ ما يزيد عن خمسين عامًا رواية علي أحمد باكثير (الثائر الأحمر)، ولم يكن الثائر الأحمر سوى حمدان قرمط أحد مؤسسي الحركة القرمطيَّة في جنوب العراق، والبحرين، وسلمية في الشام، وما إليها. وحين قامت داعش المعاصرة أخذت تستدعي في ذاكرتي تلك الرواية، وكثيرًا مما قرأته في الملل والنحل، وتاريخ الفرق عن القرامطة، ووجدت شبهًا عجيًبا بين تصرفات القرامطة الماضين وداعش والقرامطة الجدد، وحين ذبحوا سبعمائة شابًا في الرقة والمناطق المحيطة بها بعد أن عاهدوا على المحافظة على حياتهم، وتكرر ذلك مع قبائل عربيَّة سنيَّة أخرى؛ تأكَّد لدي أنَّ هؤلاء الذين توهم البعض عن جهل وقلة دراية بتاريخ المنطقة أنَّهم من السنَّة والعرب فكانوا يستغربون كيف يقتلون ما يقرب من أربعمائة إمام من أئمة مساجد السنة في العراق، ويحرقون مساجد، ويختارون من القبائل العربيَّة الباقية في الأنبار ومدنها خيرة شباب تلك القبائل، يقتلوهم ذبحًا بالسكاكين؛ لكيلا تقوم لتلك القبائل قائمة وهم يرون أمامهم بلدًا ممزقًا، لا حكومة فيه ولا جيش، وقد صار نهبًا لقادة الملشيات والعصابات والتجمعات المختلفة، تأكَّد لدي أنَّنا أمام قرامطة جدد، أضافوا إلى خبرة القرامطة الماضين الكثير من تراث الشيوعيَّة الحمراء، خاصَّة في عهد ستلين.
إنَّ منطقة انتشارهم والتكوين العقلي والنفسي لديهم تكوين قرمطي، فالقرامطة لم يعلنوا عن أنفسهم أنَّهم شيوعيون أو اشتراكيون كما ذكر علي أحمد باكثير حين عنون رسالته بالثائر الأحمر، وإنَّما كانوا يتبنون أقوالًا متطرفة من أحزاب المعارضة الخفية منها والظاهرة التي كانت في تاريخنا تنتمي أو تدعي الانتماء صدقًا أو كذبًا لشيعة آل البيت، وما كانوا شيعة ولا سنة بل كانوا قرامطة فقط، حقدوا على الإسلام والمسلمين، يبغضون كل ما يمت للإسلام بصلة، قتل الناس عندهم أهون من قتل القوارض، لا يفرقون في القتل بين دين وآخر، ولا مذهب ومذهب، ولا تأخذهم رأفة بأحد؛ ولذلك فقد أعطوا لأنفسهم الحق فيما مضى أن يغزوا مكة ويرتكبوا من الجرائم الفظيعة في الحرم ما لا يستطع أن يرتكبه إبليس نفسه، فقتلوا الحجيج، والكثير من أهل مكة، وسبوا نساءهم وذراريهم، واغتصبوا أموالهم، وأرادوا نقض الكعبة، واستطاعوا أن يأخذوا الحجر الأسود منها ويسرقوه وينقلونه لإحدى القرى التي يسيطرون عليها في البحرين، وذلك في عام (317ﻫ). ولم يعيدوه إلا بعد اثنين وعشرين عامًا، عام (339ﻫ) حين بعث الحاكم بأمر الله الفاطمي للقرامطة برسالة. بعد أن انتزع القرامطة الحجر الأسود من الكعبة. وأرسل الخليفة الفاطمي المهدي العلوي رسالة تهديد إلى أبو طاهر القرمطى يأمره برد الحجر الأسود إلى الكعبة، وكتب عبيد الله المهدي في رسالته إلى أبو طاهر القرمطي يحذره أنَّه إن لم يَرُد أموال أهل مكّة التي سرقها وإرجاع الحجر الأسود إلى مكانه ووضع ستار الكعبة عليها مجدّدًا فإنَّه سيأتيه بجيش لا قِبَلَ له به. وأذعن القرامطة للتهديد، وأعادوا موسم الحج، بعد تعطيله لمدة تقارب الاثنين وعشرين سنة، وأعادوا الحجر الأسود.
إنَّ داعش اليوم تشبه في تكوينها ونشأتها والعنف الذي تتبناه الحركة القرمطيَّة، وحين نبحث عن الجذور التي أدت إلى قيام حركة القرامطة القديمة يمكن أن نتخذ منها مؤشرات للظروف التي عاشت بها تلك الأقاليم سوريا والعراق ومصر والبحرين والحجاز لتمتد تلك الحركة البائسة الشريرة في تلك الفراغات، وتستولي على ما استولت عليه من أراض، وتسفك الدماء الحرام في الحل وفي الحرم، وتستبيح من المسلمين مثل ما كان يستبيحه أعداءهم منهم من تتار وصليبيين وأمثالهم.
وفكر القرامطة كان يقوم على جانبين جانب خيالي قد يستعين قادة القرامطة لإنمائه واثرائه بالمخدرات، من حشيش وسواه، وجانب آخر يرسمونه هم في أذهاب أتباعهم ليكونوا جنودًا مطيعين، لا يعصونهم في أوامرهم، وهذا الفكر لا تعرفه سائر المذاهب الإسلاميَّة ولا الأديان، ولا الشرائع، حتى حينما يقتنص شياطينهم بعض الأقوال من هنا أو من هناك؛ ولذلك فإنَّ من يريد مكافحتهم بجد وهزيمتهم لابد له من وضع استراتيجية طويلة المدى تستلهم التاريخ وتأخذ منه الدروس والعبر، وتسد المنافذ وتجفف المنابع، التي وجدت في التاريخ وسمحت بقيام هذه الحركة، وانتشارها في تلك المرحلة التاريخيَّة، والنظر في واقع العرب والمسلمين اليوم لمعرفة الثغرات التي استغلها الشياطين المؤسسون لداعش والقائمون عليها، وكيف سخروا أولئك الشباب وحولوهم إلى وحوش كاسرة في أشكال بشر، قد انسلخوا من الانتساب إلى البشر منذ البداية.
أمَّا الربط بين الإرهاب المعاصر وبين تلك الحقبة التاريخيَّة فينبغي أن يكون دقيقًا جدًا، لكيلا يدخل الساعون للقضاء على هذه الفتنة وإنهاء وجود هذا التيار في متاهات أخرى، فنحن أمام فئة شيطانيَّة ماكرة استفادت من تجارب تاريخيَّة وتجارب معاصرة، فلا يستهان بها ولا يجري تجاوزها والانشغال بسواها، ولا تتخذ إجراءات قد توسع قواعدها، وتمنحها روافد قد تعزز من قوتها، بل لابد من العمل على حصرها في دوائر جغرافيَّة محددة ثم التعامل معها في تلك الدوائر، لكي يقضى عليها وعلى منابعها مرة واحدة، فلا يسمح أن تقوم لها قائمة، أو تخلف من ورائها تنظيمًا يحمل مثل أمراضها وعنفها، والشر المتفشي في عقول وقلوب أبنائها.
والله من وراء القصد.