أ.د/ طه جابر العلواني
استشهد ثلاثة من أبناء المسلمين في ولاية كارولاينا الشمالية (North Carolina)، لا نريد أن نسبق التحريات والتحقيقات والقضاء في هذا الأمر، ولكن نريد أن نحاول استخلاص الدروس من هذه الواقعة.
كنا حين نلقى غير المسلمين في الولايات المتحدة في المؤتمرات واللقاءات، يقولون لنا: مرحبًا بكم، أنتم إضافة للولايات المتحدة، فلكم حضارة وتاريخ وتقاليد، لا شك أنَّها سوف تشكِّل رافدًا مهما لثقافة أمريكا وحضارتها، ومجتمعها. وقد يذكرون أمورًا معينة مثل الأسرة ونظامها في الإسلام، والتكافل الذي يظهر في الزكاة والصدقة، وكون المسلمين في الولايات المتحدة خاصَّة يمثلون نخبة من الأطباء والمهندسين ورجال الأعمال، وما يزال سلم الأخلاق والقيم عاليًا لديكم.
ولم نفتقد مثل هذه الكلمات الطيبة إلا بعد 11 سبتمبر وما حدث فيها، فلقد كانت تلك العمليَّة المشؤومة خطًا فاصلًا ولحظة فارقة بين لحظتين، تلك اللحظة المشرقة التي كانت تبشر بالخير، وتجعل الإسلام دينًا يعد الأكثر والأسرع انتشارًا في الولايات المتحدة من أي دين آخر، إذا بنا نجد ردة لدى بعض من لم يرسخ إيمانهم بعد، وقلقًا وخوفًا لدى الآخرين، وصرنا حين نسير في الأماكن العامَّة نواجه بنظرات غريبة، نشعر وكأنَّ الناظر إلينا يريد أن يزلقنا ببصره، مثل قوله (جل شأنه): ﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ (القلم:51)، وبدأت الأحزاب الدينيَّة الموجودة في الشرق والحركات السياسيَّة بالانتشار، فإذا بذلك كله يتحول إلى جزء من العوامل الإضافيَّة لكراهية المسلمين وعزلهم نفسيًّا وعاطفيًّا لدى غالبية الشعب الأمريكي.
وصار التعاطف بين طوائف الأمريكان والمسلمين قاصرًا على أولئك الذين عرفوا مسلمين وخالطوهم ولم يعرفوا عنهم إلا الجوانب الإيجابيَّة التي قبلوها، لكن موجات الغضب التي تنتاب البيض خاصَّة، وهناك فصائل من البيض تضمها تجمعات شديدة التعصب للقادمين إلى أمريكا من جذور أوربيَّة، حيث يعتبر هؤلاء أنفسهم المسؤولين المباشرين عن حماية الولايات المتحدة، وحفظ أرضها، لأصحابها الأصليين الذين هم أولئك البيض من الأصل الخالص (puritanism)، وبين هؤلاء انتشرت أفكار اليهود المسيحيين (Jewish Christians) الذين يرون أنَّ السيد المسيح لن ينزل إلى الأرض مرة أخرى إلا بعد أن تقضي إسرائيل على العرب والمسلمين، وتهدم الأقصى، وتقيم الهيكل على أنقاضه، وتسيطر السيطرة التامَّة؛ ليتمكن المشايا وهو السيد المسيح بن مريم عند اليهود من أن يحكم الأرض ألف سنة يقيم فيها العدل بعد أن ملئت جورًا.
وحين نضم هؤلاء إلى أولئك نجد أنَّ أمريكا مطلوب لها أن تكون للجودو كرشتين (Jewish Christians) والعناصر البيضاء فقط، وإذا لم تصبح أمريكا (puritanism) فإنَّ هؤلاء لن يربحوا دينًا ولا دنيا، والمسلمون في كل الأحوال هدف للفريقين، وغرض لسهام كل هذه الأطراف، فوجودهم صار بغيضًا إلى الجميع، وبعد 11 سبتمبر نشطت مراكز البحث اليهوديَّة والصهيونيَّة ومراكز البحث التي أسسها هؤلاء لبث روح العداء والرفض والمقاومة لكل ما هو إسلامي، بل والعمل على تحجيم المسلمين في ديارهم، والانتصار لأعدائهم عليهم، واعتبارهم مصدر كل سوء، فالشيطان تجسد فيهم، وهم ظاهرة موازية للظاهرة الشيطانيَّة.
فلا غرابة أن توغر الصدور ضد المسلمين، وتغير أفكار الأمريكان ونظرتهم للمسلمين ودينهم، وأن تحصل القيادات المتطرفة أمريكيَّة أو أوربيَّة على التفويضات اللازمة لدعم مخططات تدمير المسلمين، وتحجيمهم والاستيلاء على ثرواتهم، وحرمانهم من أبسط حقوقهم، هذه ناحية، والناحية الثانية أنَّ حركات الإسلامي السياسي وهي محدودة وقليلة في أعدادها وإمكاناتها توهمت أنَّ أمريكا يمكن أن تكون هي وأوروبا ميادين لنشاطهم السياسي، وإحداث تغيير في مواقف قياداتهم السياسيَّة، ودفعهم لاتخاذ مواقف مناصرة لبعض القضايا التي يتبنونها.
وسواء فعلوا أم لم يفعلوا فإنَّ هناك مواقف أخرى تحكم هذا النوع من القضايا، وإسرائيل لم تكسب هؤلاء لمواقفها لو لم تستطع أن توجد سُدَى ولحمة عضويَّة مع أوروبا وأمريكا تجعل هؤلاء لا ينظرون إلى إسرائيل إلا على أنَّها المقدمة الضروريَّة وخط الدفاع الأساس عن الغرب والقيم الغربيَّة والمصالح الغربيَّة، والشريك الذي لا يستغنى عنه، وأنَّ كل النظم والقواعد التي أوجدت في الغرب تلك الهوامش التي يستفيد بعض أفراد المسلمين بها من الحريات واللجوء السياسي والهجرة وما شاكل إنَّما هي أمور ابتكرت في الأصل لمساعدة يهود، وأمثالهم على إيجاد أوطان بديلة مستقرة تصلح أن تلعب دورين، دور في دعم الدولة وتثبيتها ما دامت قائمة، ودورًا آخر أن تستضيف يهود مرة أخرى لو قدر عليها الشتات.
وقوانين تلك البلدان خاصَّة في الهجرة وفي التعاون الدولية مكرسة تقريبًا لخدمة تلك الأغراض، لكن المسلمين لا بواكي لهم، فإذا بدأ بعض البيض أو غيرهم من فصائل الشعب الأمريكي يستهدفون شبابًا بمثل ذلك الشكل البشع الذي حدث لشباب (North Carolina)، فذلك يعني الإعلان بأنَّ الوجود الإسلامي صار في خطر، وأنَّه لم يعد مرحبا به كما كان، وأنَّ على المسلمين هناك أن يعيدوا حساباتهم وأن يعملوا على تحسين صورهم، والتفاعل مع شرائح تلك المجتمعات الأقرب فالأقرب.
فكيف يمكن أن يتم ذلك؟
أولًا: لابد من وحدة المجتمعات الإسلاميَّة في الغرب، وجمع كلمتها، واعتبار أنَّ أيَّة محاولات لتفريق الكلمة بحسب القوميَّة أو اللغة، أو الجنس، أو المذهب، أو الطائفة، هي جريمة في حق الإسلام والمسلمين، وهو أمر نعرف صعوبته جيدًا، لكنَّه أقل من صعوبة توحيد العرب والمسلمين في خارج تلك الديار، فالحس الاجتماعي في تلك الديار عال، وله روافد ثقافيَّة وتعليميَّة مهمة، وبالرغم من شيوع الفرديَّة فإنَّ الرغبة في الانتماء والحس الجماعي والإحساس بالجوار وقيمة الجوار ما تزال من القيم المتوافرة في كثير من تلك المجتمعات، فإذا استطعنا بعد توحيد كلمتنا وروابطنا والتخلص من الاتجاهات الطائفيَّة والعنصريَّة والمذهبيَّة وما إليها، وتغلبنا على مشكلة انقسام المساجد؛ فإنَّنا سوف نوفر أجواء لتقديم الإنسان المسلم على كونه نموذجًا، يقتدى به في سلوكه وفي تعامله مع أسرته وفي تصرفاته، وفي معاملاته، خاصَّة وأنَّ رصيد المجتمعات المسلمة من المثقفين والمتعلمين وأصحاب المهن الطبية والهندسية وأنواع العمل الأخرى تشجع وتساعد على إعطاء مثل هذه النماذج.
ثانيًا: لابد من مراجعة جميع التراث المذهبي والفقهي المتعلق بتعاملنا مع أهل الكتاب، كدولة كبرى أو عظمى في العالم، وتعاملنا باعتبارنا جزء من مجتمعات معاصرة حديثة لا نمثل فيها أكثريَّة بل أقلية، وأقلية بسيطة، محدودة، فلابد من ملاحظة ما نقدمه في مساجدنا ومدارسنا وبيوتنا لأبنائنا، بحيث نجعل من سلوكهم أحسن سلوك، يصلح أن يكون نموذجًا ومثالًا.
ثالثًا: يجب على المسلمين أن يهتموا بشرائح المجتمع الذي يعيشون فيه، فإذا أردنا التصدق والتبرع فلابد أن ننظر إلى فقراء البلد الذين نتعامل معهم، فأموالنا التي استفدناها في تلك البلدان فقراؤها أولى بزكاتنا وصدقاتنا، من بلداننا الأصليَّة، التي تركها البعض منا هاربًا، أو مفلسًا، ليجد في بلدان المهجر راحته وأمنه ورفاهيته، فليس من العدل ألا ينال فقراء تلك البلدان والعناصر المهمشة فيها من صدقاتنا وزكواتنا وبرنا ما يستحقونه.
رابعًا: يجب أن نتجنب استفزاز الآخرين بأنواع العمارة لمساجدنا وبيوتنا وتميزها عن الآخرين، فالمساجد والمراكز الإسلاميَّة وما إليها يمكن أن تبنى على طراز عثماني أو مملوكي أو عباسي أو سواه فتبدوا نشازًا في تلك البيئات، لكننا لو حاولنا أن نجعل مراكزنا ومساجدنا وبيوت عبادتنا تأخذ نوعًا من العمارة يجمع بين العمارة في تاريخ تلك البلدان وثقافتها وشيء مما نرى أنَّه لن يستفز الآخرين بل سيعجبهم، وخاصَّة ما يتعلق بمآذن المساجد، فنحن نعرف أنَّ أشكال المآذن في العالم الإسلامي قد تنوعت وتعددت كثيرًا، بحسب الأقوام والشعوب، وكانت تستجيب لثقافات تلك البيئات، فلما لا نلاحظ ذلك في هذه البيئات الجديدة؟.
خامسًا: ولابد لنا من دراسات متعمقة لظاهرة وجود المسلمين خارج أراضيهم، ومنها الأندلس وأوروبا وغيرهما؛ لكي نحفر في الجذور لمعرفة لماذا أقام المسلمون دولًا في مثل الأندلس والهند، ثم فقدوها وغادروها مكرهين تلك الأماكن.
سادسًا: لابد من تشكيل لجان مختلطة من المسلمين أمريكان وأوروبيين وقادمين من الشرق؛ لزيارة الكنائس والأماكن العامَّة، وإقناع كل من يتصلون به أو يتصل بهم أنَّ الإسلام ليس دينًا مهاجرًا إلى أمريكا أو أوروبا، بل هو واحد من أديان تلك القارة، يحمله الأبيض والأسود والقادم من الشرق وأبناء البلاد الأصليين؛ لإزالة الشعور بغربة أو اختلاف أبناء المجتمع المسلم عن غيرهم من مواطنيهم.
يتبع.