Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

حقيقـة المعجـزة

 

د‏.‏طه جابر العلواني‏

«‏السرى‏»‏ سير الليل‏،‏ يُقال‏: «سرى‏»‏ و‏ «أسرى‏»،‏ قال تعالى‏: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ‏﴾ (‏هود‏:81) (الحجر‏:65)، ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ‏﴾ (‏الدخان‏:23)،‏ والسراة من القوم بالفتح: أشرافهم‏.‏ وفي قوله سبحانه‏: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ‏(‏الإسراء‏:1)‏ أراد -جلَّ شأنه- ذهب به ليلاً في سراة من الأرض، رفيعة في قدرها ومكانتها وشرفها ورفعتها إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وذكر ما حوله للتوكيد على كونه محلاً للبركة‏،‏ ومكانًا لها من باب أولى.‏ و‏«‏البركة»: ثبوت الخير الإلهي في الشيء،‏‏ ويوصف بالبركة الحسي والمعنوي والبشر والأشياء‏،‏ قال تعالى‏:﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (‏الأعراف‏:96)،‏ قال‏:﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ﴾ (‏الدخان‏:3)‏، وفي المنازل ما هو مبارك:‏ ﴿وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا﴾ (‏المؤمنون‏:29) «فالإسراء‏» ‏معجزة وحدث عظيم كانت له مقدمات كثيرة‏،‏ تدلُّ على الحكمة في التدبير الإلهي‏.‏

الإسراء في ذاته كان أمرًا خطيرًا، وكذلك ما ترتب عليه، فسبحان من دبَّر ذلك كله، ومن عادات القرآن ألا يبدأ‏ بـ«سبحان‏»‏ إلا للأمور العظام الجسام التي تتحير عقول البشر في إدراكها أو الإحاطة بأبعادها‏،‏ فيكون قوله‏:‏ «سبحان» دليلاً على تنـزيه الله تعالى وتعظيمه‏،‏ ووحدانيته‏،‏ ودليلاً على االقدرة المطلقة‏،‏ يوجد سبحانه تلك الأمور المحيرة‏‏ والعجيبة التي لا يقدر عليها سوى الإله الرب الواحد الأحد‏.‏

ففي البداية بها توكيد التوحيد والتنـزيه، وربط ذلك بأمر عظيم يقع موقع التعليل لذلك التوحيد والتنـزيه المجرد، والمفسرون انشغلوا وشغلوا غيرهم بمناقشة كثير من الأمور الجانبية، على حساب أمور دقيقة كان الانصراف لتِبْيانها أولى وأجدى‏.‏

ومن تلك الأمور الجانبية‏:‏ هل كانت معجزة الإسراء بالروح والجسد أو بالروح وحدها؟ وهل كان الإسراء ورؤية الآيات الإلهية رؤية حسيَّة أو منامية؟ ولِمَ كان الإسراء ليلاً ولم يكن نهارًا جهارًا؟ وإذا كان الله تعالى هو من أسرى بعبده فلم لم يفعل ذلك في لحظة؟ والذي منحه الله علمًا من الكتاب -من الجن- قد جلب عرش بلقيس لسليمان ووضعه بين يديه قبل أن يرتد إليه طرفه‏،‏ فلِمَ لم يصل رسول الله إلى الأقصى في طرفة عين؟ وتلك كلها تساؤلات لا محل لها في‏ «اللحظة الفارقة‏»‏ لحظة الإسراء‏:‏ حيث جرى تسليم مقاليد النبوات والرسالات الإلهية لخاتم النبيين‏،‏ وإمام المرسلين، بيانًا لوحدة أمة الأنبياء جميعًا‏،‏ ووحدة رسالاتهم في عقائدها ودعائم شرائعها وأصولها وأهدافها التي لابد أن تنتهي بظهور الدين الإلهي الذي حملوه على الدين كله‏،‏ والربط بين‏ «المحرم والمقدس‏»،‏ فنقطة الانطلاق والبداية كانت الحرم‏،‏ ونقطة النهاية كانت الحرم كذلك بعد الذهاب إلى المقدس‏!‏

والنبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- من ذريَّة إسماعيل‏،‏ ومن سبقوه من ذريَّة إسحاق ويعقوب، وكلهم من أبناء إبراهيم ومن ذريَّة مَنْ حمل الله مع نوح من المؤمنين الذين نجَّاهم الله في السفينة‏،‏ وحملهم على ذات ألواح ودسر، تجري بأعين الله وعنايته ليكوِّنوا بداية جديدة للبشرية أصلح من تلك التي أُنهيت بالطوفان.

والحرم ينسب إلى الله تعالى، ويستمد من الانتساب إلى ذاته العليَّة -جلَّ شأنه- حرمته، فهو حرمه الذي نسبه لنفسه كما نسب لنفسه عبده محمدًا -صلى الله عليه وآله وسلم- وسائر المساجد تستمد حرمتها من تخصيص الخلق لها لعبادة الله فيها‏،‏ والمسجد الأقصى اتخذه بعض أنبياء الأرض المباركة المقدسة مسجدًا، فاستمد من ذلك قداسته‏.‏

فمستويات المساجد ثلاثة‏:‏ أعلاها المسجد الحرام الذي اتخذه الله بيتًا يُعبد فيه، فكان حرمًا آمنًا، والمسجد النبوي الذي اتخذه رسول الله مسجدًا بعد أن أمر بالهجرة، وبناه بأمره تعالى، ثم بقية المساجد التي اتخذها عباد الله -تعالى- لعبادته فيها، وأعلاها رتبة المسجد الأقصى الذي اتخذه بعض النبيين، فالقاعدة الأساسية لوحدة الأنبياء ووحدة الدين أرساها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في واقعة الإسراء‏،‏ وعلينا أن نجعل من ذلك قاعدة الحوار ومنطلقه لإعادة التفاهم‏،‏ وبناء قواعد الحواريين أبناء إبراهيم خاصة‏،‏ وذريَّة من حمل الله مع نوح‏…‏ وللمعراج حديث آخر إن شاء الله‏.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *