Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

فرقوا دمه بين القبائل

أ.د/ طه جابر العلواني

منذ أن تآمرت قريش على قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأوصلهم قائدهم إبليس إلى تلك الفكرة الجهنمية، فكرة انتداب شاب من كل قبيلة من قبائل العرب وقبائل قريش جلد قوي؛ لضرب سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضربة واحدة مشتركة، تقضي عليه، ويتفرق دمه بين القبائل، فلا يستطيع بنو هاشم أن يحاربوا القبائل كلها، فيرضخون للأمر الواقع، ويقبلون الدية، تلك المؤامرة مع أنَّ الله (تبارك وتعالى) قد أفشلها وسقطت بهجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووصوله إلى المدينة سالمـًا معافًا، وفكرة تفريق الإسلام وتمزيقه وتوزيع مسؤوليَّة ذلك على قبائل عديدة، كأنَّها هاجس خفي يظهر بين فترة وأخرى؛ لتمزيق الإسلام وتفريق دمه بين القبائل.

وفي عصرنا هذا نجد الظاهرة بارزة بأجلى معانيها، وبأقوى مما كان إبليس قد فكر به وأحى بالفكرة إلى زعماء قريش، فالإسلام اليوم كأنَّه رقعة كبيرة واسعة تقطع القبائل بها لتأخذ كل قبيلة منها بنصيب، وفقًا لأهوائها ورغباتها ودوافعها ومصالحها وشهواتها، وما إلى ذلك، ثم توضع الأسماء بعد ذلك على تلك القطع والأديم الممزق الذي كان اسمه الإسلام، فالسياسيّون الطامحون يلعبون أدوارًا سياسيَّة يتقنونها أو لا يتقنونها يقتطعون قطعة ثم يطلق عليها الإسلام السياسي، ويأتي آخرون ليقتطعوا قطعة أخرى ويطلقون عليها الإسلام التربوي، ويأتي فريق ثالث ليقدم لنا الإسلام السني، والناصبي، وفريقًا رابعًا يقتطع منه قطعة أخرى ليسميه الإسلام الشيعي أو الرافضي أو أيَّة تسمية أخرى.

ويأتي الراغبون بالراحة والعزلة فيقطعون لأنفسهم قطعًا يطلقون عليها الإسلام الصوفي، والجهادي، والأشعري، والماتريدي، والعقلاني، والمعتزلي، ثم برزت لنا اليوم فئة المسلمون الديمقراطيين ليأخذوا نصيبهم من هذا الأديم الممزق الذي كان اسمه الإسلام، فيقطعون لأنفسهم قطع ويقولون: إنَّه الإسلامي الديمقراطي، وهكذا يفعل الليبراليون، وقبل ذلك فعلها الشيوعيون، وبرزت اشتراكية الإسلام، وشيوعية الإسلام، فما أكثر المزق والقطع التي مزق هذا الأديم المسكين إليها!.

وجاء آخرون ليطرحوا علينا رأس مالية الإسلام، وليبرالية الإسلام، والإسلام الأمريكاني، والإسلام الغربي، والإسلام المذهبي، والإسلام اللامذهبي، والإسلام السلفي، إلى آخر القائمة التي ما تزال مفتوحة للجديد، وكأنَّ هذا الإسلام ليس له مرجعيَّة يرجع إليها، وتحدد بمقتضاها مفاهيمه ومعانيه ومقاصده وغاياته، فهو نهب لكل أحد، وهي صورة مفزعة مفجعة، وكأنَّهم يريدون أن يقولوا: ماذا نفعل وهو حمال أوجه، فعليه أن يحتمل كل هذا الركام، وكل هذه العناوين، ويمد أصحابها بما يرغبون وبما لا يرغبون.

يا قومنا اتقوا الله في دين الله، واعلموا أنَّ هذا الدين دين الله (تعالى)، أنزله بعلمه، وهو قد أحاط بكل شيء علما، وحفظه بنفسه ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر:9)، وإذا كان حلم الله واسعًا فلم يعاقب هؤلاء الذين يُقَطِّعون بالإسلام بسكاكين داعش وقنابل الغرب ومدافع الشرق وسيوف التاريخ وخناجر الجغرافيا؛ فليعلموا أنَّ للدين رَبًا يحميه  ويغار عليه، وأنَّ الدين أمر يخصه هو، يحزنه ويؤسفه (جل شأنه) أن يدمر، أو يقطع، أو يفرق بين القبائل أو يمزق، ولا يرضى لدينه هذا المآل، وهذه الصيرورة فيتحول إلى فراش للمستبد، ومهاد للمستكبر، وشعار للمغرور، ودثار للسارق، وغطاء لمختلف الجرائم ترتكب باسمه، إنَّ الله ليغار، وهو يغار على دينه ويغار على محارمه.

فإذا انهزمت القبائل وضعفت وجبنت وأخذت تمسك بقطعة وتتنازل عن الباقي من أديم هذا الإسلام فإنَّ الله لا يغفر أن يشرك به ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (النساء:48)، ولا يقبل لدينه أن يمزق، وهو (جل شأنه) عزيز جبار منتقم، ومن حاول المساس بدينه والتلاعب به وجعل هذا الجزء في أحضان الأمريكان، والجزء الآخر في أحضان الأوروبيين، والثالث في غياهب الجغرافيا، والرابع في مجاهل التاريخ، والخامس في ظلام المصالح، والسادس في حضيض الملذات والمنافع، إلى آخر ذلك، فإنَّ الله (تبارك وتعالى) جعل جزاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا وصار كل حزب بما لديهم فرحون أن يزيدهم تمزقًا ويزيدهم تفرقًا، ويتربص بهم الدوائر حتى يأخذهم جميعًا أخذ عزيز مقتدر ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (الأنعام:65).

 إنَّ هؤلاء من أصحاب السكاكين أو المسدسات أو السيوف أو الرماح أو العصي أو أيًا كان من هذه الفرق أو المزق لم تستطع أن تأخذ دروسًا ولا عبرًا ولا مواعظ لا من تاريخ حديث ولا من تاريخ قديم، فانساقت وراء رغباتها، تمزق في ذلك الأديم الطاهر، ومرجعيته المعصومة شاهدة عليهم، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرقب من مضجعه الشريف ما أحدثوا بعده، وسينبأه الله (جل شأنه) بما أحدث الناس بعده في هذا الدين، وكيف قطعوه ومزقوه إربًا، وفرقوا دمه بين قبائلهم وطوائفهم وفرقهم المخذولة، وخذلوه فما زادهم الله إلا خبالًا، وتخسيرًا؛ ولذلك شعرت بتعاطف مع شوقي في قوله:

 بأيمانهم نوران ذكر وسنة ** فما بالهم في حالك الظلمات.

نعم هي بأيمانهم ولكن ليست في عقولهم، وليست في قلوبهم، ولو كان القرآن في عقولهم وقلوبهم لما فرقوا دينهم، ولما تمزقوا وصاروا سخرية للأمم وهزؤا لها، كيف يجرؤ أحد على تجاوز القرآن كله، وعدم الالتفات إليه، وهو المرجعية المعصومة لهذا الدين ليفسره كما يريد، ويؤوله كما يشاء، وينزله على أهوائه وشهواته ورغباته، فيجعله شيوعيًّا مرة، واشتراكيًّا مرة أخرى، ورأس ماليًّا مرة ثالثة، وديمقراطيًّا وليبراليًّا مرة رابعة، واستبداديًّا مرة خامسة، ومدمرًا مرة سادسة، ومعمرًا مرة سابعة، وكأنَّ هذا القرآن أنزل ليجاري البشر في أهوائهم، لا ليحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون.

يا قومنا إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ولا يأتي الناس بمثل إلا جاء هذا القرآن بالحق وأحسن تفسيرا، وما من ظلمة إلا وهو قادر على إنارتها ودفع ظلماتها فأين تذهبون، وإلى أين تفرون منه، وكان عليكم أن تفروا إلى الله (جل شأنه) وتلجأوا إليه؛ ليكشف السوء وينجينا من هذه الظلمات كلها، ويضعنا على الأمر السواء، والجادة المستقيمة، كفى اتجارًا بالدين، وتكسبًا به، وسعيًا وراء المصالح بقيمه ومقوماته. إنَّ الله (سبحانه وتعالى) قد جعل أممًا سابقة قردة وخنازير بأقل من هذه الجرائم التي يرتكبها الناس تجاه دينهم، فإذا كان (تبارك وتعالى) قد رحم هذه الأمَّة لأنَّ كلمته سبقت أن لا يعذب هذه الأمَّة ورسول الله فيها، وأن لا يعذبها وفيها بعض المستغفرين التوابين ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (الأنفال:33)، فذلك فضل منه ورحمة، وليس واجبًا عليه.

 وهذه المصائب التي تنال من الأمَّة ليل نهار وتتفجر في أقاليمها وأقطارها في كل حين يمكن أن تزداد وتكبر وتتسع وتقضي على الأخضر واليابس، لكن الله (جل شأنه) يرحم فينا أطفالًا رضع لم نعد نعرف كيف نرحمهم، وشيوخًا ركع لم نعد نعرف كيف نعتني بهم، وبهائم رتع لم نعد نعرف كيف نهتم بها، يرحمنا بضعفائنا، ويتفضل علينا بوجود القرآن بيننا، فذلك لا يعني أنَّنا سوف نظل في عين العناية، وأنَّ لذلك نهاية؛ فلنحذر النهاية، ولنعد إلى الله (جل شأنه)، ولنعد إلى مرجعية الكتاب، وهدي النبي الخاتم، وأحكام القرآن الحاكم، وقيمه، ومقاصده، فهو فينا ذكر، وبصائر، وكتاب مبين، ونبي مقيم.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *