أ.د/ طه جابر العلواني
العذاب والتعذيب وجذورهما:
العذاب شعبة من أشد شعب الظلم والإيذاء خطورة، ففيه إيذاء للإنسان وتدمير لحقوقه، لا يستطيع أن يمارسه إنسان سوي، فضلًا عن إنسان متدين أو تقي، ذلك لأنَّ الإنسان بطبيعته يدرك أنَّ ما يقوم به ضد الآخرين سوف يسقط عليه، فالله (تبارك وتعالى) يقول: ﴿.. وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ (النساء:29)، يريد بذلك أن تقتلوا غيركم فيقتلكم آخرون، فالتعذيب والاعتداء والإيذاء عبارة عن دين وقرض إذا فعله الإنسان وقع به مثله ولو بعد حين، فمن قتل يقتل، ومن عذب يعذب، ومن ظلم يظلم، وهكذا، وهذا هو العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر.
ولكن التاريخ مليئ بأخبار أقوام من الظالمين، منهم من عجل الله عقوبته، وجازاه على ظلمه، ومنهم من لحقت خزاياه أولاده وأحفاده وأهل بيته، والله (سبحانه وتعالى) حذر الإنسان من أن يرتكب شيئًا لا يحب أن يراه في عقبه، ولا في أبنائه ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا﴾ (النساء:9)، فمن خاف على نفسه أن تدمر حقوقه وتهان كرامته ويعذب أو يعذب أبناؤه وأحفاده من بعده فليتق الله، ولا يمدن يده أو رجله أو لسانه بالسوء إلى سواه، فعاقبة ذلك البوار والخسار.
وهناك حالات توتر تصيب المقاتلين سواء أكانوا يقاتلون أعداء خارجيين أو بغاة داخلين، خارجين على النظم والقوانين، بحيث يحمل ذلك التوتر المحقق أو الحارس أو المقاتل أن يعذب أو يؤذي من كلف بدفع أذاه، أو الحيلولة بينه وبين أن يؤذي نفسه أو الآخرين، فتحول شحنة التوتر والتعبئة التي تأتي عادة من المحرضين على ذلك المتهم أو المظنون وكأنَّه عدو مباشر لمن يطارده أو يحقق معه أو يحاكمه أو يحرسه، أو أو أو .. إلخ، بحيث يجد نفسه أحيانًا دون تصميم أو عزم أو إرادة سابقة منه يقسو على ذلك الإنسان فيقوم بتعذيبه.
ولقد نشَرت منذ ما يزيد عن ثلاثين عامًا كُتيبًا صغيرًا عن حقوق المتهم في مرحلة التحقيق، وبينت ما له وما عليه في شريعتنا الغراء، ونال إعجاب الكثيرين وسخط المحققين، وكثير من الجهات الأمنيَّة في البلد التي كنت أعمل فيه، وجادلني بعضهم في كل ما ذكرت حتى بلغ بأحد القضاة أن قال لي: أتمنى أن يبتليك الله بالقضاء لتعلم –آنذاك- أنَّ القاضي أو المحقق أو المسؤول عن الأمن ليس هو من يعذب ذلك المتهم بل المتهم هو الذي يعذب القاضي والمحقق ومن إليهما.
وحين تصل المشاعر المأزومة والمنحرفة إلى هذا المستوى فإنَّ ذلك يجعل الإنسان الضعيف الفرد المقبوض عليه عرضة للعذاب والتعذيب، وتدمير الإنسانيَّة، وهدر الكرامة، وإيذائه بما يعف الإنسان أن يؤذي الحيوان به، لكن ذلك ما كان يحدث؛ ولذلك حرص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحذر المقاتلين والمسؤولين عن مثل هذه الأمور من الظلم، أو تجازو الحدود التي حددها الله (جل شأنه) للمقاتلين والمجاهدين، ويؤكد على الدوام على ضرورة الالتزام بالحق والعدل والمساواة بين الناس، وعدم الاعتداء على أي حق من الحقوق، وتبعه بعد ذلك خلفاؤه من بعده، فكل منهم كان يوصي قادة الجيش أن لا يخونوا ولا يغلوا ولا يمثلوا بأحد ولا يقتلوا طفلًا صغيًرا ولا شيخًا ولا امرأة، ولا يعقروا نخلًا ولا يحرقوه، ولا يقتلوا المواشي، ولا يعتدوا على معتزل القتال، ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسمح بالتمثيل بالإنسان ولا الاعتداء عليه.
وحين انتهت تلك المرحلة النيرة مرحلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفائه الراشدين من بعده تغيَّر الحال، فلما تسلم الأمويون السلطة سلطوا على الناس بعض العمال الظلمة، مثل زياد بن أبيه، الذي نقل عنه أنَّه كان يعذب الناس ويدفن بعض المتهمين أحياء، ويبني على بعضهم بنيانًا، ويقطع أطراف النساء، وبعد ذلك خلفه ولده عبيد الله بن زياد فسار على نهج أبيه في الجور والظلم، وكان يرمي الناس من شاهق، ويقتل بالظنة، ويتمتع برؤية من يقتلون، وينصب لنفسه كرسي يراقب منه حالة احتضار المقتول، ويستمتع بذلك، ثم برز الحجاج بن يوسف، الذي كان أحيانًا ينعل الناس بنعال الدواب، وقد يسمِّر بعض الناس في الحيطان ويستمتع بقلع الأظافر، وشق لحوم الناس بقصب مشقوق يضعه على أبدانهم يمزقها بها، ولما انهار حكم بني أميَّة سلَّط الله عليهم بني العباس فقتلوا الجميع.
وقد ذكر لنا المؤرخون أنَّ أسر هؤلاء جميعًا الحجاج وزياد وغيرهما قد أبيدت كلها، وظن الناس أنَّ بني العباس سوف يتوبون إلى الله، ولا يسيرون بالناس سيرة الأمويين، ولكنَّهم سرعان ما سلكوا المسلك نفسه وأشد، فعذَب المنصور بفقء العيون، وهدم البيوت على ساكنيها، أمَّا المتوكل فقد عرف بنبش القبور، والانتقام من الجثث، وكان يتلذذ بأن يحضر آباء ليقتل أمامهم أبناءهم، ثم يأمر بوضع رأس الابن في حجر الأب، فإذا بكى الأب وتوجع، وفاه بأيَّة كلمة تغضبه؛ أمر ولده الثان -إن كان له ولد ثان- أو أخاه بضرب عنقه؛ ولذلك فإنَّ قبور هؤلاء الذين عذبوا الناس كانت تُخفى، فيروي الطبري أنَّ المنصور حين مات حفروا له أكثر من مائة قبر في أماكن مختلفة، ثم دفنوه في قبر آخر غير المائة المحفورة لئلا ينبشه الناس، وهكذا الحال مع كثيرين من هؤلاء.
ونجد عند الطبري وابن الأثير وتجارب الأمم كثير من قصص هؤلاء الذين محقهم الله بعد أن ضربوا أسوأ الأمثلة في الظلم والقسوة، وقد أحصينا من أنواع التعذيب التي جرت في تلك التواريخ أصنافًا، منها: الشتائم بكل أنواعها، وأصنافها، إضافة إلى الإهانات بالعفطة والإشارة باليد، وعرك الأذن، ووجء العنق، والتفل في الوجه، والسحب على الأرض، والحصب بالحصى، والضرب والصفع والركل بالأرجل، واللكز بالمسامير، والحبس في مختلف أنواع الحبوس، كالحبوس الاعتياديَّة، أو فيما يسمى بالمطبق أو المطمورة أو الكنيث أو دور المجانين، وتكبيل المحبوس بالقيود، وإلباسه الصوف الخشن، وغطه في مياه الكوارع، وغمس الرؤوس في النفط، وتحميل الأثقال، وإرسال الحشرات أو السباع عليه، والمسح، ونتف الشعر، والتعذيب بالدوشاخه أو الزمارة أو بالقنارة أو بالمضرسة أو التعليق من اليدين أو بيد واحدة، إلى قرض لحم البدن بالمقاريض، وجرح الإنسان ورش الملح على حرجه، والتعذيب بالنار، أو بالماء المغلي سلقًا أو حقنًا، وسلخ جلد البدن، وقطع الأطراف، وجدع الأنف، وصلم الأذن وقطع اللسان، إضافة إلى الرجم بالحجارة، أو القتل بكتم النفس، أو القتل بكسر الظهر، أو تحطيم الرأس، إلى ألوان كثيرة من التعذيب الذي يقشعر منه البدن.
وهذا كله يعتبر بدائي بالنسبة لوسائل التعذيب المعاصرة التي اخترعتها النازية والفاشية والشيوعية وغيرها، فكيف تجرَّأ الإنسان على ذلك، وكيف تم تدمير نفسيَّته، وتخريب عقليَّته، وتحويله إلى ما هو أشد فتكًا بالإنسان من الحيوان المفترس الأعجم، أهو البغي والحسد والرغبة في الظلم، والاستعلاء والتسلط على الآخرين؟ أم ماذا؟.
إنَّنا في حاجة إلى دراسات متعمقة جادة تتناول هذه الانحرافات في سائر العصور، وتبين كيف يتجاوز الإنسان إنسانيَّته، ويلحق نفسه بالحيوانات المفترسة ليشفي غليله من خصم فعلي، أو إنسان أريد له أن يكون خصمًا، إنَّنا بحاجة إلى دراسات متعمقة في هذه الأمور، ومعرفة جذورها وأسبابها، إضافة إلى معرفة بطبيعة الإنسان، وكيف يمكن أن يتغير ويتحول إلى ذلك الفتاك المفترس الذي لا يعف عن جريمة، ولا يتوقف عن انحراف.
يتبع.