د.طه جابر العلواني
من أكثر المفاهيم القديمة الحديثة شيوعًا وانتشارًا في أيامنا هذه «مفهوم السلف». إنَّ «جيل التلقي» الذي تشرَّف بالعيش في حياة النبيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم- وصحبته، وتلقى القرآن منه كما تلقاه -صلى الله عليه وآله وسلم- من لدن حكيم خبير، لم يكن بحاجة إلى تفسير إلاّ «التفسير العمليِّ التطبيقيِّ» الذي لا يتعلَّمون منه معاني القرآن؛ لأنَّها بيِّنة وظاهرة.
فلقد يسَّر الله -تبارك وتعالى- هذا القرآن للذكر، وجعل آياته «آيات بيِّنات بذاتها مبيِّنات لغيرها» وبينات من الهدى والفرقان: ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ (البقرة:185)، ﴿وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (النور:34)، ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (النور:46)، ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل:89)، فهذه الآيات -ومثلها في القرآن المجيد كثير- تدل دلالة قاطعة على أنَّ آيات القرآن الكريم بيِّنات واضحات بنفسها لا لبس فيها ولا اختلاف ولا غموض، وقد استنبط الإمام الشاطبيُّ من قوله تعالى: ﴿….تبيانًا لكل شيء﴾ أنَّ القرآن الكريم هو المبيِّن للسنَّة النبويَّة المطهَّرة؛ لأنَّها ممَّا يصدق عليه: «شيء»، وبالتالي فإنَّها تندرج في عموم قوله تعالى: ﴿تبيانًا لكل شيء﴾، ولعلَّه يريد بذلك أنَّه ما من سنَّة سنَّها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إلا ولها أصل ثابت في القرآن المجيد تفرَّعت عنه، وبُنيت عليه، بل هي «حقيقة قرآنيَّة» قام رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بتأويلها، أي تطبيقها في الواقع المعيش لتكون سنَّة وطريقة نبويَّة واضحة بيِّنة، ومنهجًا لتفعيل القرآن والعمل به، وتكييف سائر جوانب الحياة بمقتضى آياته، فهي الصورة التطبيقيَّة المعصومة للخطاب القرآنيِّ. فهو -صلى الله عليه وآله وسلم- يتلو علينا آيات الله: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ (النمل: 91-92).
ولذلك كان منهج من كانوا حول رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في تعلُّم القرآن الكريم على يديه -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يتعلموا نجمًا أو مجموعة آيات فيُحسنون تلاوتها وترتيلها، ثم يتعلمون من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- منهجه في تأويلها في الواقع والعمل بها وتطبيقها، فإذا أتقنوا ذلك ذلك انتقلوا إلى نجم آخر من الحكمة؛أي منهج التطبيق والتفعيل والتأويل؛ لتصبح «التزكية» ثمرة لتلاوة رسول الله، وتعليمه مَنْ حولَه الكتاب والحكمة، فيظهر الإنسان التقيُّ المزكَّى المطهَّر، وتُبنى «الأسرة التقيَّة المزكاة المطهَّرة»، ويُبنى «المجتمع المزكَّى المطهَّر»، وتُصبح «التقوى» أساس كل بنيان في المجتمع، و«التزكية» سُدَاه ولحمته، ويندحر الشيطان وحزبه، وتسقط تهديدات الشيطان: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ*قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ*إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ*وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ*لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ﴾ (الحجر:39-44)، فإذا مَنَّ الله على إنسان أو أسرة أو مجتمع «بالتزكية» فقد فاز في الدارين، ونال الفلاح في الدنيا والآخرة؛ لأنَّ «مجتمع التزكية» هو مجتمع أولئك: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ*وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ*وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ*جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ*سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ*وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ (الرعد:20-25)
وقد برز مفهوم «السلف» للدلالة على أولئك الذين اعتبروا امتدادًا طبيعيًّا لـ«جيل التلقي» الذي عاصر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو جيل الصحابة الذين عاشوا بعد رسول الله -ومنهم بعض أئمة آل البيت في العهد النبويِّ- ومثل هؤلاء هم الذين كان يقصدهم بعض التابعين في قولهم: “ن كان متأسيًا فليتأسَّ بمن قد مات” وبناء على ذلك برز القول «بحجيَّة قول الصحابيِّ» عند بعض المدارس الفقهيَّة والأصوليَّة فيما بعد، وصار يطلق على ذلك الجيل: «السلف الصالح».
وحين بدأت بعض المقولات ذات الصبغة العقديَّة في قضايا الجبر والاختيار؛ أي: الجدل العقيم حول كون الإنسان مسيرًا أو مخيرًا، والصفات الإلهيَّة، كان هناك من يتحرَّى مواقف القرَّاء من ذلك الجيل، ويعبِّر عنها «بعقائد السلف»، ويدعو إلى التمسك بها، وصار ذلك التوجُّه من التوجُّهات التي يلجأ إليها دعاة الإصلاح عندما تفشو البدع وتنتشر، وقد يطغى الاهتمام بها على حقائق الإسلام والسنن النبويَّة الثابتة، فيتنادى المصلحون إلى ضرورة العودة إلى ما كان عليه «السلف الصالح» من التزام بأصول الاسلام وثوابته، والتمسُّك بالكتاب الكريم وتأويله وتفعيله في السنن النبويَّة الثابتة؛ لذلك فقد كانت «السلفيَّة» تيَّارًا يظهر ويختفي ويقوى ويضعف بحسب قرب الناس من حقائق الإسلام وبعدهم عنها، وانتشار البدع أو انكماشها.