Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

التدبُّر

د‏.‏طه جابر العلواني

التدبُّر مفهوم قرآني من أهم المفاهيم الأساسية التي تُنَبِّه إلى كلمات القرآن المجيد وآياته‏,‏ وتُشير إلى أنَّ آيات الكتاب ومفرداته ليست بالعاطلة ولا الساذجة التي يُمكن إدراكها من أول قراءة أو نظرة‏,‏ فإنَّها -على يُسرها وسهولتها عندنا- فبادئ النطق والنظر لا تكشف له عن بعض مكنوناتها إلا بما سماه القرآن المجيد المكنون بالتدبُّر‏.‏

وهنا يبدو التدبُّر بوصفه قوة إدراكيَّة عقليَّة وذهنيَّة ونفسيَّة ومعرفيَّة تجريبيَّة وغير تجريبيَّة مكتسبة، تضع جميع قوى الوعي الإنساني وقواه الإدراكية في حالة استعداد تام كامل شامل للتعامل مع قول إلهي متعالٍ ثقيل، نزل به الروح الأمين على قلب رسول أمين، صُنع على عين الله تعالى لتلقي هذا القرآن من لدن حكيم خبير‏.‏ وهذا القول الإلهي الثقيل تتنوع آثاره‏,‏ وتتعدد في قارئيه وسامعيه، بحيث يرتبط تأثيره ارتباطًا وثيقًا بحالة القارئ والسامع‏,‏ واستعدادات قوى الوعي والإدراك لهما‏,‏ فإذا أحسن كلٌّ منهما إعداد وتهيئة هذه القوى فاض هذا القول الإلهي بكريم عطائه على القارئ والسامع، حتى يملأ قواه تلك بدلائل الهدى والنور، فيكون شفاءً لما في الصدور وهدى ورحمة وموعظة وبشرى وذكرًا وفقهًا وإخباتًا وخشوعًا‏,‏ وطمأنينة قلب‏,‏ ونقاء وجدان‏,‏ وعلمًا ومعرفة‏,‏ فيجد كلٌ مِن القارئ والسامع طمأنينة في القلب وإخباتًا‏,‏ ولينًا في الجوارح، يُهيِّئها للانطلاق لتحقيق أهداف القرآن ومقاصده، بقيادته ووفقًا لهدايته، فيُصبح القرآن قائدًا للإنسان وهاديًا له‏,‏ ودليلاً يأخذ بيده إلى كلِّ خير في الدنيا والآخرة‏.‏

أمَّا إذا كانت الأخرى، بأنْ لم يُهيِّء القارئ ولا السامع كل قواهما الإدراكية لاستقبال هذا الضيف العظيم بما يليق به من التجرد والاستعداد للقائه، فإنَّه –آنذاك- أعني القرآن يدرك بأنَّه جاء إلى متبرم بلقائه‏,‏ مستثقل لاستقباله‏,‏ أو رافض له‏,‏ أو معادٍ‏,‏ إذا نظر إليه فإنَّما ينظر إليه نظرة عدو يبحث عن ثغرة‏,‏ أو خصم ينتظر غرة‏، فينغلق الخطاب القرآني دون ذلك القلب‏,‏ وينكمش بعد أن يترك إصابات خطيرة في قوى الوعي والإدراك لدى ذلك الخصم الذي لم يعرف له قدره‏,‏ ولم يهيء نفسه وقلبه وعقله لحسن استقباله‏.‏

فإذا كان القرآن المجيد يُمثل للفريق الأول المتدبر هدى وشفاء لما في الصدور ورحمة، فإنَّ أثره في الفريق الثاني ألا يزيده إلا ضلالا لظُلْمِهِ نَفْسَهُ‏,‏ وظلمه للقرآن حين لم يستقبله بما يليق بعظمته وعلوِّ قدره‏: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا﴾ ‏(‏الإسراء‏:82)‏، وإذا كان للفريق الأول هدى ورحمة ونورًا وبيانًا وشفاء‏ًً,‏ فهو للفريق الثاني عمى وضلال‏,‏ فكان كِبرهم وغرورهم‏,‏ وإعراضهم عن الذكر تحول ذ لك كله إلى عوامل ضلال إضافية، تضاف إلى ما كان لديهم‏,‏ فإذا كانوا في حالة عشو عن الذكر فقد صاروا بعد ذلك إلى حالة عمى كامل،‏‏ فيصبح المُعرض عن الذكر فريسة للشيطان بعد أن رفض هداية القرآن: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ *وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ*حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ (‏الزخرف‏:36‏-‏38)،‏ فيا ويل ذلك الذي لم يُحسن استقبال القرآن‏,‏ ولم يُتقن تدبره‏,‏ إنه يخسر اللحظة الفارقة بين الهدى والضلال‏,‏ وحين يخسرها بإعراضه عن القرآن والتقصير في حقه‏,‏ فإنَّه قد يعجز عن استعادتها حتي لو أراد‏,‏ فالقرآن يطرق باب قلبه مرة‏,‏ فإنْ وجد استقبالاً يليق به بدأ كرمه وفيوضاته بالإحاطة بذلك القلب والتحلي عليه وإنارته‏، أمّا إن وجد إعراضًا فإنَّ الشيطان يُسارع إلى ذلك القلب ليغمره بضلالاته حتى يُصيبه بالعمى، ثم يأخذ بزمامه في دركات الضلال حتى يوصله إلى موقف الحساب‏،‏ فإذا وجد نفسه بين يدي الله تنبَّه وأدرك‏,؛ لأنَّ الله -تعالى- يكشف عنه غطاء الشيطان‏,‏ فيستعيد قوى وعيه وإدراكه ليُشاهد الحقائق المرة التي قاده إعراضه عن القرآن إليها‏:‏ ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ*وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ ‏(‏ق‏:22-23)‏

اللهم فاجعل القرآن ربيع قلوبنا, وجلاء همومنا وأحزاننا‏,‏ ونور أبصارنا وبصائرنا، إنك سميع مجيب‏.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *