أ.د/ طه جابر العلواني
في الحديث الشريف الذي روته السيدة زينب بنت جحش -رضي الله عنها-: أنَّ النبيَّ (صلَّى اللهُ عليهِ وآله وسلَّمَ) دخل عليها فَزِعًا يقولُ: (لا إلهَ إلا اللهُ، ويلٌ للعربِ من شرٍّ اقترَبَ، فُتِحَ اليومَ من ردمِ يأجوجَ ومأجوجَ مثلُ هذهِ). وحلَّقَ بإصبعِهِ الإبهامَ والتي تليها، قالت زينبُ بنتُ جحشٍ: فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنهلِكُ وفينا الصالحونَ؟ قال: (نعم، إذا كَثُرَ الخَبَثُ)[1]. فكأنَّ مقدار ما كان قد فتح يساوي درهمًا، أو بحجم الشلن المصري، ولا شك أنَّ تلك الفتحة الصغيرة قد اتسعت، وفي حديث آخر: أشار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أنَّه كان يرى مساقط الفتن على بيوت المسلمين، هذه الأحاديث بقطع النظر عن قواعد المحدثين تدخل في أوصاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في البشارة والنذارة، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾ (الأحزاب:45-46)، ودخولها في باب النذارة أو البشارة يجعلها مما يصدق القرآن عليه ويهيمن، فنفهمها في هذا الإطار.
فهي إنذار وتحذير وقراءة في المستقبل، إنذار منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنَّ هذه الأمَّة ليست معصومة من أمراض الأمم التي سبقتها، ولا هي بمنجاة مما لحق غيرها، بل هي معرضة لمثل ما تعرضت له الأمم قبلها، وهنا موضع التحذير، تحذير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لئلا تقع بمثل ما وقعت به أمم قبلها من نسيان حظ مما ذكرت به، أو تجاهل شيء مما وعظها الله به، فذلك سيؤدي إلى قسوة قلوبها، وتفرق كلمتها، وجعل بأسها بينها شديدًا، وتحذير لها من مستقبل هي سائرة إليه، ومتجهة نحوه، فإمَّا أن تأخذ حذرها، وتحترز عن السقوط بمثل ما سقطت به الأمم قبلها، وإمَّا أن يصيبها ما أصاب تلك الأمم، فظاهر أنَّها قد أصيبت فعلًا الآن بمثل ما أصيبت به الأمم قبلها، وسقطت في الأخطاء التي سبقها غيرها من الأمم إليها.
إنَّ الفتنة حين تبدأ تبدأ صغيرة، ربما مثل عقب سيجارة مشتعل، يلقه مدخن لا يلق إليه بالًا، ولكن ذلك العقب الصغير التافه يمكن أن يشعل حريقًا لا ينطفئ إلا بعد أن يقضي على الأخضر واليابس، ويسبب أضرارًا بالغة الخطورة، كذلك الفتنة قد تبدأ صغيرة، قد تبدأ بكلمة خبيثة، أو تصرف خبيث، ثم تسري في سائر الجوانب سريان النار في الهشيم، حتى تدمر ما أتت عليه، وتجعله كالرميم، كلمة خبيثة، أو تصرف ممنوع، أو سفك لدم حرام، أو اعتداء، أو وضع جور بدل عدل، وخيانة بدل أمانة، لتشعل فتنة لا تقف عند حد.
إنَّ الفتنة حين تبدأ وتذر قرنها قد ينظر إليها باحتقار، وقد يهملها الناس، ولا يلتفتون إلى آثارها المدمرة في المستقبل، بل يتجاهلونها، فإذا بها بعد فترة تصبح مصدرًا للشرور، والآثام، والخبائث، والتفرق، والتشتت، ونشر البغضاء، ونفسيَّة الاعتداء، وعقليَّة المبالغة، وثقافة العنف، وقد يتوهم المتوهم من أطراف الفتنة أنَّه قد حقق نصرًا هنا أو هناك، أو حصل على غلبة في هذا الجانب أو ذاك، وذلك وهم، فكل أطراف الفتنة خاسر، وكل أطراف الفتنة إلى بوار، وما يتصوره المفتون كسبًا أو انتصارًا ما هو في الحقيقة إلا دمارًا، والقرآن المجيد يقول: ﴿.. وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ (النساء:29)، والقاتل هنا لم يقتل نفسه فلم ينتحر، ولكنه قتل غيره، لكن الله (تبارك وتعالى) يبين لنا أنَّ قتل الغير بغير حق هو انتحار، وقتل للنفس، وتدمير للذات، ويقول: ﴿.. وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ..﴾ (البقرة:84)، ينهى بذلك عن تشريد الإنسان لأخيه الإنسان وإخراجه من داره، وهي جريمة أكبر من القتل، ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ (النساء:66). فالذي يخرج غيره من داره اليوم إنَّما يحكم على نفسه بخراب البيت، ومغادرة الدار، وفقدان الوطن، كم فعل هو بسواه، فهناك نوع من الذنوب يعجل الله لمرتكبيها نتائج ما فعلوا؛ ﴿.. لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم:41). إنَّ الفتن اليوم تكاد تقضي على العرب، وتدمر المسلمين، وتقضي على مستقبلهم بعد أن عبثت بحاضرهم، فهل يفيق المسلمون من غفلتهم؟ وهل يصحو العرب من نومتهم؟ وهل يستطيعوا أن يميزوا بين أصوات الفتنة، وأصوات الإصلاح والتجديد؛ لحماية أنفسهم والخروج من الفتنة؟
روى حذيفة بن اليمان أمين سر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الفتن وفي معرفة المنافقين قال: كنَّا عندَ عمرَ. فقالَ: أيُّكم سمِعَ رسولَ اللَّهِ (صلَّى اللَّهُ علَيهِ وآله وسلَّمَ) يذكرُ الفتَنَ؟ فقالَ قَومٌ: نحنُ سمِعناهُ، فقالَ: لعلَّكم تَعنونَ فتنةَ الرَّجلِ في أهلِهِ وجارِهِ، قالوا: أجَل، قالَ: تلكَ تُكفِّرُها الصَّلاةُ والصِّيامُ والصَّدقةُ، ولكِن أيُّكم سمِعَ النَّبيَّ (صلَّى اللَّهُ علَيهِ وآله وسلَّمَ) يذكرُ الفتنَ الَّتي تموجُ مَوجَ البحرِ، قالَ حُذَيفةُ: فأسكَتَ القَومُ، فقُلتُ: أنا، قالَ: أنتَ للَّهِ أبوكَ، قالَ حُذَيفةُ: سمِعتُ رسولَ اللَّهِ (صلَّى اللَّهُ علَيهِ وآله وسلَّمَ) يقولُ: تُعرَضُ الفتنُ علَى القلوبِ كالحصيرِ عودًا عودًا، فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها نُكِتَ فيهِ نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنكرَها نُكِتَ فيهِ نُكتةٌ بَيضاءُ، حتَّى تصيرَ علَى قلبَينِ، علَى أبيضَ مِثلِ الصَّفا فلا تضرُّهُ فتنةٌ ما دامتِ السَّماواتُ والأرضُ، والآخرُ أسوَدُ مُربادًّا كالكوزِ مُجَخِّيًا لا يعرِفُ معروفًا ولا ينكرُ مُنكرًا إلَّا ما أُشرِبَ مِن هواهُ، قالَ حُذَيفةُ: وحدَّثتُهُ أنَّ بينَكَ وبينَها بابًا مُغلقًا يوشِكُ أن يُكسَرَ، قالَ عمرُ: أكَسرًا لا أبا لَك فلَو أنَّهُ فُتِحَ لعلَّهُ كانَ يُعادُ، قلتُ: لا بل يُكسَرُ، وحدَّثتُهُ أنَّ ذلِكَ البابَ رجلٌ يُقتَلُ أو يموتُ حديثًا ليسَ بالأغاليطِ”[2]. وبالفعل كان الباب هو عمر، وبعد اغتياله واغتيال الشهيد الثاني عثمان والشهيد الثالث علي بقيت أبواب الفتن مشرعة، لا يخرج المسلمون من فتنة إلا ليسقطوا في أخرى، حتى يومنا هذا.
إنَّه قد آن الأوان إلى أن يلجأ قادة الرأي والفكر والعلم والدين وقادة القوم إلى الله (جل شأنه) يجأرون إليه بالدعاء وبالتوبة النصوح، ويعملون بكل جد وجهد لغلق أبواب الفتنة، ولو بأكياس من رمال، أو أسمنت، فإنَّ الفتنة لا تخدم أحدًا، ولا تترك فرصة لأي من أطرافها أن ينسب لنفسه نصرًا، أو مكسبًا، أو إنجازًا، بل هي تخلط الحابل بالنابل، يقول (جل شأنه): ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ (الأنعام:65)، فنحن في حالة إلباسنا شيعًا في حالة الفرقة، حالة أن يذيق الأخ أخاه بأسه، ويذوق هو البأس بعد ذلك بيد أخرى، إلى ما لا نهاية؛ ولذلك فإنَّ هذا النوع من الفتن يقتضي العودة إلى الله (جل شأنه) والرجوع إليه، وإقامة الحق والعدل.
لقد حاول عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- أن يسد باب الفتنة، بالرجوع إلى الله، ورد المظالم، وإقامة العدل والإحسان، والقضاء على آثار استبداد من سبقوه، ومحاولاتهم الاستعلاء على الناس، فحقق من النجاح ما استطاع، لكن المنية لم تمهله، فمضى -رحمه الله- قبل أن يكمل مهمته، ويسن المنهج الذي بدأه، ويرسخ قياساته في القضاء على الفتنة بكتاب الله، فالذين يريدون القضاء على الفتن وإغلاق أبوابها فدونهم منهج القرآن، الذي حاول عمر بن عبد العزيز أن يغلق به أبواب الفتن.
فهل من مدكر؟ وهل من مستجيب؟.
اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنَّك سميع مجيب.
[1] الراوي: زينب بنت جحش أم المؤمنين، المحدث: البخاري، المصدر: صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 3346، خلاصة حكم المحدث: صحيح.
[2] الراوي: حذيفة بن اليمان المحدث: مسلم، المصدر: صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: 144، خلاصة حكم المحدث: صحيح.