Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الفتنة 1

أ.د/ طه جابر العلواني

شاهدت على التلفاز بعض وقائع مؤتمر كبير للمصالحة والتسامح، عقد في بغداد هذا اليوم (31/1/2015)، وقد ألقيت فيها كلمات مهمة ممن استضاف المؤتمر وهو السيد عمار الحكيم، ورئيس الجمهوريَّة، ورئيس الوزراء، ورئيس مجلس النواب، ورئيسا الوقف الشيعي والسني، وتتابعت بعد ذلك الكلمات، ولا شك أنَّ لقاءات كهذه ضمت ممثلين عن الأديان والطوائف تعد لقاءات مهمة، تستحق التشجيع، والدعاء بالتوفيق، ونحن نتمنى لكل جهد يبذل لحقن دماء المسلمين والحيلولة دون المزيد من إراقة دماء العراقيين بكل مذاهبهم وطوائفهم النجاح والفلاح، ولكن دون تحقيق هذه الأماني “خرق القتاد”.

فالله (تبارك وتعالى) هو وحده المؤلف بين القلوب، وهو وحده الجامع لها، والمفرق لشملها؛ ولذلك فإنَّ في الأدعية المأثورة: “اللهم إنَّ هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك، وائتلفت على الإيمان بك، فأدم الله فيك مودتها”. لكن القلوب حين تقسو بعد أن يطول عليها الأمد، وتبتعد عن الله (جل شأنه)، وتفقد السند الرباني، والدعم الإلهي لدوام التأليف بين القلوب، والإبقاء عليه، لا تجتمع على شيء أبدًا، فهي كما يقول الشاعر:

إنَّ القلوب إذا تنافر ودها *** مثل الزجاجة كسرها لا يجبر.

وقلوب العراقيين قد تنافر ودها، وتفككت روابطها، وقست قلوبها، وتشتت شملها، ولم تعد تأتلف على شيء، فلا كتاب الله يؤلف بينها؛ لأنَّها اتخذت مرجعَّيات صنعتها، ومصالح عبدتها، ومطامع ألهتها، وأوثانًا طائفيَّة اختلقتها، وبالتالي فلم يعد للكتاب الكريم على قلوبها تأثير يذكر، فإذا تليت آياته لم تجد في تلك القلوب المجخية صدى، وإذا نودي بكلماته لم تجد تلك الكلمات إلى تلك القلوب الصدئة سبيلًا لإزالة سخائمها، وتطهير أوانيها، وإعدادها من جديد للألفة والمحبة، فالقلوب قد ملأتها سخائم الطائفيَّة، وأدران العنصريَّة، وأوساخ الحزبيَّة، وأقذار ونتانات الدعاوى المنتنة على اختلافها. فأنَّى لقلوب ملأى بتلك السخائم أن تنفتح، أو تستجيب لنداء الحق، ولدعوة التآلف، والتسامح.

إنَّ قلوبًا قد بلغت ما بلغته الاختلافات، والفرقة، والكراهية، وقسوة القلوب ذلك المستوى الذي جعل الدم الإنساني الحرام أرخص من دماء الحيوان وأقل شأنًا من دماء الأنعام، تراق ليل نهار من قبل الجميع، حتى أصبحت تلك الدماء تلطخ كل شيء، ومن لم يتلطخ بشيء من تلك الدماء فإنَّ رذاذها قد بلغه ووصله، ومن يرى في كلامي هذا شيئًا من مبالغة فلينظر في المقابر الجماعيَّة التي كشف القليل منها وما يزال الكثير بعيدًا عن الكشف، ولينظر في المفخخات والمعارك الطائفيَّة، والدماء التي أصبحت تغسل كما تغسل دماء الذبائح من أمام محلات الجزارين فيما مضى، لكن المحلات الآن أصبحت كل الشوارع وكل البيوت.

إنَّنا قد تعلمنا من القرآن الكريم أنَّ لنا أن نعلم وندرب الجوارح لتصطاد لنا، وأذن لنا أن نأكل من صيد ما علمناه من تلك الجوارح، بشرط أن تنطلق تلك الجوارح للصيد لنا لا لنفسها، ولحسابنا لا لحسابها، فإذا حدث واصطادت الصيد وأكلت منه قبل أن تأتي به إلى صاحبها يعتبر ذلك الصيد حرامًا، ويعتبر ذلك الكلب أو الجارحة من صقر وسواه قد فقد التعليم، وبالتالي لم يعد من الجائز أكل ما يصطاده؛ لأنَّه لم يعد من المعلمين.

والإنسان حين يعتاد رؤية الدماء البشريَّة صباح مساء لا يمكن أن يحتفظ بنقاء قلبه، أو صفاء سريرته، والأجيال العراقيَّة للأسف الشديد، قد ألفت رؤية الدماء وغسل الدماء يوميًا ولعدة مرات من الشوارع والجوامع والكنائس والبيع وسواها، فلم يعد الإنسان في نظر أخيه إنسانًا، وهنا يعني أنَّ هذا الشعب كله ومثله الشعب السوري والصومالي وربما اليمني يحتاج إلى إعادة تأهيل وبناء من جديد، بناء لإنسانيتها، بناء لقلوبها، ترميم لنفوسها، تصحيح لعقولها، تقييم لثقافتها، النظر في أمراضها التي اعترتها وسيطرت على نفوسها وقلوبها، إنَّها قد تجاوزت حالات الدعوة إلى المصالحة والتسامح، خاصَّة إذا كانت هذه الدعوة لا تنطلق إلا إذا طلبت من آخرين، ودعى إليها الأبعدون، ووو …

لست متشائمًا، لكنني أقرر حقائق، إنَّ الراغبين بتأليف القلوب، وبناء ثقافة التسامح لابد لهم أن يتوبوا إلى الله، وأن يفروا إليه: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (الذاريات:50)، ﴿.. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (النور:31)، وذلك يعني أنَّ كل الأوثان الاجتماعيَّة التي صنعها الناس وكرسوها، كل ما اختلفوا عليه واختلفوا فيه يجب أن يرد إلى الله، أي إلى كتابه، فهو المرجعيَّة العليا، وهو النور المبين، والشفاء لما في الصدور، وهو الهدى وغيره عمى، وهو البصائر، فإذا فررنا إلى الله (جل شأنه) واطرحنا بين يديه، وتضرعنا إليه أن يعيد إلينا إنسانيَّتنا أولًا لندرك أَّننا بشر، وأنَّه خلقنا من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء .. (النساء:1)  ثم لندرك أنَّنا جميعًا لآدم وأنَّ آدم من تراب، وأنَّه (جل شأنه) أنشأنا من الأرض واستعمرنا فيها، منها خلقنا، وفيها يعيدنا، ومنها يخرجنا تارة أخرى ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (طه:55)، وألاكفان لا جيوب لها، وأنَّ القبور لا توضع فيها خزائن، وأنَّ القلوب إذا كساها الرين، وغطتها الحجب فليس لها من دون الله مطهر ومنظف يزيل أدرانها، وينقي جوانبها من سائر أنواع الدغل والدخن والأوضار.

إنَّ الله (جل شأنه) أقرب من حبل الوريد لمن أراد الرجوع إليه، وإنَّ الله (جل شأنه) هو المؤلف بين القلوب، وقد قال لنبيه (جل شأنه) وهو مرجع البشريَّة كلها الذي لا ينازع: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (الأنفال:63)، فإذا أراد العراقيون وأي شعب آخر من شعوب هذه الأمَّة أن يعيد ألفته ويسترد وحدته، ويتعلم التسامح والنظرة الإنسانيَّة المتوازنة فلابد من الفرار إلى الله (جل شأنه)، وإعادة بناء الإنسان على نور وبينة منه (جل شأنه)، عقلًا ونفسًا، جسدًا وسلوكًا، لابد من التخلص من كل أنواع الذنوب، واللجوء إلى رب الأرباب، الذي ربط ألفة القلوب بطاعته، وباللجوء إليه، كما أنَّ تفرقها يحدث عندما يحدث عند ظهور البغي والحسد، والبعد عنه (جل شأنه) واتخاذ شيء خارج عن هدايته، وبصائر آياته، مرجعًا ومصدرًا للهداية والتأليف، يقول الله (جل شأنه): ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (المائدة:14) هذا ما حدث لمن سبقنا، وحدث في أسلافنا، وها هو يدمر حياتنا، ويصادر مستقبل أبناءنا وأحفادنا، فهل نستطيع أن نعي هذه البديهيَّة، ونحن لا ننفك نؤكد إيماننا بالله وتعلقنا به، واتباعنا لنبيه، وحبنا لأهل بيته وصحابته؟

اللهم أحينا بعد موات، ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (الأنعام:122)، وأخرجنا من الظلمات، وألف بين قلوبنا، إنَّك على كل شيء قدير، وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *