Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

شهادة الحق

د.طه جابر العلواني

«الشهادة» مفهوم قرآنيٌّ يحتلُّ أهميَّة خاصَّة، وهو من «الشهود»؛ بمعنى «الحضور» مع المشاهدة، إمَّا بالبصر أو بالبصيرة، والله -تبارك وتعالى- «عالم الغيب والشهادة». و«الشهادة»: قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر، وهي نوعان: أولهما يجري مجرى العلم؛ فيكون الشاهد قد بلغ مستوى العلم واليقين بما يشهد به. والثاني يجري مجرى القسم. وفي النوعين لا يُقبل من الشاهد إلا أن يقول: «أشهد بكذا» أو «أشهد بالله بكذا»، ولا يقبل القاضي الشهادة بلفظ «أعلم أو أرى أو سمعت»، بل لابد من استعمال لفظ «أشهد» في سائر أنواع الشهادات لتضمُّنها معنى الحضور والجزم واليقين، واعتراف المتهم على نفسه بفعل شيء ما إن كان قد حدث نتيجة ضغط أو إكراه نفسيٍّ أو جسديٍّ يُعدُّ من قبيل الشهادة على النفس، وهو أمر رفضته معظم القوانين المعاصرة، ومنها القوانين الأمريكيَّة؛ ولذلك رأينا هيئات الدفاع عن معتقلي «غوانتنامو» وهيئات «حقوق الإنسان» تطعن في اعترافات أولئك المعتقلين باعتبارها «شهادات على النفس».

كما أنَّ دعوى الإنسان لا تُقبل إلا بالبيِّنة والشهادة؛ لأنَّها شهادة للنفس. أمَّا إذا اعترف الإنسان مختارًا دون ضغوط بارتكابه جريمة فذلك «إقرار»، والإقرار مقبول خلافًا للشهادة على النفس أو لها، والقرآن المجيد قد استثنى حالة واحدة فيها معنى الشهادة للنفس على الغير، ويقبل فيها قول المدَّعي بدون شهود، فقال تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (النور:6)، والشهادات الأربع -هنا- مصحوبة بالقسم لتؤكد صحة الدعوى وصدق المدعي، ومع ذلك فإنَّ المتضرِّر بهذه الشهادة يستطيع أن يدرأ العذاب عن نفسه، وهو بعض آثار شهادة الملاعن أن تشهد الزوجة الملاعنة «أربع شهادات بالله إنَّه لمن الكاذبين»؛ وبذلك تهدم شهادته، وتتخلص من العقوبة الشرعيَّة التي تنتظر الزاني والزانية، وهذه الحالة الاستثنائيَّة هي الحالة المعروفة «بحالة الملاعنة»، عندما يجد زوج رجلاً زانيًا في فراشه وليس هناك مَنْ شهد ذلك غيره.

ومن عدل الله -عز وجل- ولطفه وفضله أنَّه لن يحكم على عباده باستحقاق الجنَّة أو النار إلا بعد إقامة الشهادة عليهم، فالإنسان هو الذي يقرأ كتابه: ﴿اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ (الإسراء: 14)، ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (فصلت:20)، ﴿وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ (ق:21)، أي: من يشهد له وعليه. و«الشهيد» الذي شهد الله له بالموت في سبيله، وشهدت الملائكة والنبيُّون والصديقون والشهداء له بذلك بناء على شهادة الله له بها. وهو يشهد ويرى ما أعدَّ الله -تعالى- له من الكرامة، هذا و«الرواية» عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- شهادة عليه أنَّه قال قولاً أو فعل فعلاً أو أقرَّ أمرًا يجعل ذلك المرويَّ مصدرًا لحكم شرعيٍّ، فكأنَّ الراوي حين يروي عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلَّم- شيئًا يشهد على رسول الله أنَّه أخبر عن الله -تعالى- بأنَّه حرَّم كذا أو شرَّع كذا أو أوجب كذا، أو أباح كذا؛ ولذلك كان كبار الصحابة -وفي مقدمتهم الشيخان أبو بكر وعمر، وكذلك عثمان وعليُّ رضي الله عنهم- يتجنَّبون الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وإذا روى لهم صحابيٌّ حديثًا طلبوا منه شاهدًا آخرًا معه يُعزِّز روايته، وقد يطلب الإمام عليّ -رضي الله عنه- يمين الراوي إذا انفرد بالرواية وعجز عن الإتيان بشاهد ثانٍ، وربما استشهد البعض لصنيع الراشدين هذا بقوله تعالى: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾ (يس:14). وقد فرَّق إمامنا الشافعيُّ -رضي الله عنه- بين الرواية والشهادة بأمور، وجمع بينهما في أخرى، فقال عن الرواية: إنَّها قد تُخالف الشهادات في أشياء وتجامعها في غيرها (الرسالة 1008)، قال الشافعيُّ: “… أقبل في الحديث الواحدَ والمرأة ولا أقبل واحدًا منهما في الشهادة” (1010)، و”أقبل في الحديث: حدثني فلان عن فلان إذا لم يكن مدلِّسًا، ولا أقبل في الشهادة إلا «سمعت» أو «رأيت» أو «أشهدني»” وقد استمر -يرحمه الله- بذكر الفروق بين الاثنين في الفقرات التالية لما ذكرنا حتى الفقرة (2093)، وموقف الإمام ومن وافقه من أهل العلم بالحديث والأصول والفقه في حاجة إلى وقفة مراجعة… والله أعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *