أ.د/ طه جابر العلواني
التشيع لآل البيت بدأ تشيعًا للإمام علي، بتفضيله على سيدنا عثمان، فكثير من الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يرون لو أنَّ عليًّا -رضي الله عنه- قد تسلَّم الخلافة بعد سيدنا عمر -رضي الله عنه- لكان امتدادًا طبيعيًّا لخلافة عمر، ولتكرست وقويت مفاهيم الخلافة على منهاج النبوة، وعززت لدى المسلمين فقه الكتاب الكريم، والالتزام به، والاعتصام بآياته، فالرجلان عمر وعلي -رضي الله عنهما- بينهما فهم مشترك لقضايا الأمَّة، وفهم دقيق في كتاب الله (تعالى)، ورسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبعادها المختلفة، ومن ذلك الشعور القائم على تمني لو كان علي جاء بعد عمر مباشرة انبثق التشيع العلوي، تشيع للقرآن الكريم الذي مثَّل المحجة البيضاء العاصمة من الاستبداد والفساد، البانية لأسس وقواعد التوحيد والتزكية والعمران وبناء الأمَّة وإرساء دعائم الدعوة، إنَّه تشيع العدل والحرية والمساواة والحب والمعرفة، إنَّه تشيع نبذ الغلو والتطرف، والتأكيد على وحدة الأمَّة، واتباع الكتاب الكريم، والتمسك بالهدي النبوي، وبحب آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، وهذا التشيع العلوي لم يكن بطبيعته يحدث فجوات كالتي نشهدها اليوم بين طوائف المسلمين، وقد عبر عنه شعراء كبار مثل الكميت الأسدي صاحب القصيدة المعروفة:
طربت وما شوقًا إلى البيض أطرب *** ولا لعبًا مني وذو الشيب يلعب
إلى أن قال:
وما لي إلا آل أحمد شيعة *** وما لي إلا مذهب الحق مذهب.
وتطور التشيع من تلك الأفكار البسيطة التي تقدم علي على عثمان، وتنحاز إلى شرعيَّة إمامة علي بعد عثمان على الأقل -رضوان الله عليهم أجمعين- إلى أن صار مذهبًا له رؤية خاصَّة في بعض الأمور الكلاميَّة، والفقهيَّة، والأصوليَّة، ظلت تنمو جيلًا بعد آخر، لكنها لم تصل إلى حالات قطيعة مع طوائف المسلمين إلا بعد قيام الدولة الصفويَّة التي وصلت إلى السلطة في إيران في القرن العاشر الهجري.
فالدولة الصفويَّة في إيران قامت ضد الغزنويين السنة الحنفيَّة، الذين كانوا يحكمون إيران، ويشكلون امتدادًا لدولة آل عثمان، التي دخلت في حروب ومعارك مع بعض الدول التي شكَّلت فيما بعد أوروبا، فكأنَّ أوروبا أرادت أن تعمل حركة التفاف على الدولة العثمانيَّة فشجعت العائلة الصفويَّة على سلخ إيران، وإقامة دولة صفويَّة فيها، وتدمير الوجود السني الحنفي في إيران، واستبداله بتشيع متعصب، ذي نزعات انفصاليَّة عن باقي المسلمين، لا تخلو من مشاعر استعلاء عليهم.
لقد تبنت الدولة الصفويَّة تشيعًا حكوميًّا، وحشدت من استطاعت من المفكرين والملالي؛ ليوجدوا مقولات تحقق فواصل يصعب التئامها، أو القفز عليها لتوحيد الأمَّة من جديد، فجعلت من موضوع استشهاد الإمام الحسين -رضي الله عنه وأرضاه- مناسبة تحريضيَّة قرنتها بقضايا اللطم ومجالس العزاء، وإيغار صدور المتشيعين ضد جميع الطوائف الإسلاميَّة الأخرى، وضد سائر المذاهب لتحقيق العزلة التامَّة للمنتمين إلى معسكر التشيع الصفوي، وليستمر هذا المعسكر في عزلته ليوظف عند الحاجة فيما يثير المشاكل والفتن والخلافات بين طوائف المسلمين، وبذلك أخذت أصول من التشيع العلوي وأضفيت عليها صفات من التشيع الصفوي امتزجت بها.
وقد استقطب الصفويون نخبة من المنظرين ليكملوا لها أشكال المذهب، كانت الجبهة الإسلاميَّة في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط تعتبر أهم قوة أو هي القوى الأعظم استراتيجيًّا وسياسيًّا وحضاريًّا في ذلك الزمان، ولقد استطاعت الجبهة الإسلاميَّة –آنذاك- بقيادة العثمانين أن تحاصر ﭬـيينا عاصمة النمسا في وسط أوروبا، وهددت إيطاليا بالسقوط أكثر من مرة، واستولت على أوروبا الشرقيَّة وصارت قوة أعظم على المستوى الدولي والسياسي، فاستطاعت الدولة الصفويَّة بعد استخدام شتى أنواع العنف ضد الإيرانيين السنة إلى إيجاد مجاميع من المتطرفين المتعصبين، الذين نظروا إلى الدولة العثمانيَّة على أنَّها دولة سنيَّة عمريَّة منكرة للإمامة، ومخالفة للوصيَّة النبويَّة، ولا تعتقد بصاحب الزمان المهدي، ولا شك أنَّ الكيان العثماني كان فيه كثير من المصائب والمخالفات، ولكن ما كان خارجًا عن الإسلام، بل كان قوة للمسلمين كافَّة.
إنَّ النزاع العثماني الغربي إذا نظر إليه في أفقه الأوسع فإنَّه يعكس واقع النزاع بين القوتين الإسلاميَّة والصليبيَّة في عالم القرون الخامس عشر إلى التاسع عشر، وفيما كان العثمانيون منهمكين في دحر القوات الغربيَّة وتحقيق الانتصارات المتوالية، إذا بقوة جديدة تظهر على حدودهم الشرقيَّة وتباغتهم من الخلف، وذلك حين قامت ثورة إيران بقيادة رجل من سلالة الشيخ صفي الدين الأردبيلي، واستطاعت توظيف رصيد الكراهية لإقامة حكومة صفويَّة في إيران كما ذكرنا، فكان (القزل باشية) الصفويَّة يجوبون شوارع وأزقة المدن وهم ينادون باللعنة على أبي بكر وعمر، ويطلبون من العامَّة ترديد ذلك وراءهم، ومن لم يفعل وضع أولئك الحراس حرابهم في صدره، وبذلك تحولت إلى عمليَّات انتقام من السنَّة، وتحويل قسري إجباري لجميع السنَّة في إيران إلى شيعة صفويين، يحملون هذا التشيع، أو هذا النوع من التشيع. وانكشف ظهر الدولة العثمانيَّة، وبدأت الدول الصليبيَّة بالتقدم عليها حتى انتهت النهاية المعروفة باعتبارها دولة الرجل المريض. ولولا انتصار الصفوين في طهران وتغييرهم لكل شيء فيها لما كان عالم اليوم بالشكل الذي نراه.
والذي ننصح شباب اليوم أن يدركوه هو الخروج من التعميمات التي قد توقع الإنسان بالظلم، أو على الأقل بعدم الانصاف، فالتشيع العلوي تشيع يقوم على الحب والمعرفة، وتشيع يقوم على السنَّة النبويَّة، والهدي النبوي، تشيع يدعو إلى وحدة الأمَّة، وإلى تحقيق العدل في المجتمع، تشيع للاجتهاد مقابل التقليد، وللحريَّة مقابل العبوديَّة، وللشورى مقابل الاستبداد، وللتوحيد مقابل الشرك، هو تشيع ينسجم مع كتاب الله، وهدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا نوع من التشيع لا يخلو منه مسلم، فما من مسلم لا يحب آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما من مسلم لا يعشق سيرة علي -كرم الله وجهه- والحسين والحسن وآل بيت النبوة، وما من مسلم يفضل أحدًا بعد الشيخين ومن فضلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو قدمهم عليهم، فإيَّايا وإياكم والتعميم، لكيلا تَظلِمون أو تُظلَمون، وميزوا بين تشيع وتشيع، وبين الغلاة المتطرفين، والذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا، ومن أحسن ما قرأت في هذا الباب وأدعو الشباب لقراءته هو ما كتبه الشهيد علي شريعتي التشيع العلوي والتشيع الصفوي، وهو موجود بالعربيَّة والإنجليزيَّة والفارسيَّة، ومطبوع عدة طبعات.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه.