أ.د/ طه جابر العلواني
للتعلُّم مقدمات وله وسائل وأدوات، والقرآن المجيد قد أولى هذا الجانب اهتمامًا كبيرًا، وهو جانب تهيئة المتعلم نفسيًّا وعقليًّا ووجدانيًّا لأن يكون أهلًا لنيل العلم، فذكر لنا أقوامًا وحكم عليهم بأنَّهم لا يصلحون لنيل العلم، ومما ذكره: أنَّ على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقر: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ..﴾ (الأنعام:25)، ووضعوا بينهم وبين العلم الذي نزَّل الله على قلب نبيه حجابًا مستورًا، فلم يعد القرآن المجيد شفاءً لما في الصدور بالنسبة لهم، لأنَّهم لم يكونوا قد طهروا أنفسهم ووجدانهم وعقولهم وقلوبهم وهيئوها بالتقوى لتعلم العلم، فشرط تعلم العلم الأساس هو التقوى: ﴿.. وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:282).
فالعلم أمر في غاية الأهمية، لا يملكه ولا يحيط به إلا الله (سبحانه وتعالى)، وما آتانا منه إلا القليل: ﴿.. وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (الإسراء:85)، ويوم اغتر إبليس بالعلم الذي آتاه ربه عن خصائص الخلق وأصولهم، ولم يكن قد طهر نفسه وهيأ عقله وقلبه ووجدانه لتلقي العلم، واغتر بما تعلم، وقال: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ (ص:76)، فبدلًا من أن يدرك عظمة الخالق الذي خلق من كل عنصر من تلك العناصر خلقًا مغايرًا، ومنَّ عليه بقدرات لم يمنحها لخلق آخر، ولم يكن إبليس يتحلى بالتقوى، وكان من نار، فهو سريع الاشتعال، سريع الغضب، فبمجرد أن أمر بالسجود انقلب على عقبيه، وقال أنا خير منه، في حين أنَّ الملائكة: ﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة:32). فالتقوى غربال العلم ومصفاته، وإذا فارقت التقوى العلم فقد يتحول العالِم إلى شيطان مريد ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ (الحج:4).
ومعركة التراث والمعاصرة معركة قديمة حديثة، فالمستشرقون يدَّعون أنَّهم علَّمونا بتحديهم لنا ولتراثنا كيف ننقد التراث، وتبعهم من تبعهم، وحين رأى أولئك الذين تبعوهم أنَّهم قد عالجوا مشاكلهم مع تراثهم بما سموه بالقطيعة المعرفيَّة التي قامت على فكرة نبذ التراث، والتنكر له، واعتباره مصدر التخلُّف، والذلة والهوان؛ قرروا إحداث تلك القطيعة المعرفيَّة، والتخلي عن تراثهم، وحصره في الرفوف العالية التي يرجع إليها رجال الكنائس واللاهوت والتاريخ، ومن إليهم في ظروف معينة، ثم لا يسمحون باستدعائها أو إنزالها من على تلك الرفوف، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك مرة أخرى؛ لأنَّ مصيبتهم الكبرى كانت مع اللاهوت والتثليث والصلب والفداء، ومجموعة القضايا الأساسيَّة التي أدت بالفعل مع مشكلات المنطق الأرسطي ومدرسته إلى تخلُّف أوروبا قرونًا عديدة، فلم تسلك سبيل النهوض إلا حين طرق أبوابها بعنف ابن رشد، والغزالي، والفخر الرازي، وأمثالهم من علماء أمتنا.
وتراثنا الإسلامي يختلف تمامًا عن التراث الكنسي، فتراثنا الإسلامي مهما قيل فيه ومهما وجدنا فيه أو في بعضه من سلبيَّات هو تراث في جملته خصب وغني وذو ثراء عريض، وما يزال الجانب السلبي فيه جانبًا يمكن إحصاؤه وحصره وتنقية التراث منه، إذا وجد المتخصصون القادرون على النظر في التراث والمعاصرة معًا، ووضع الضوابط والمناهج والأدوات والوسائل اللازمة لتنقية ذلك التراث، لكن عامته وجملته ما يزال فيه الكثير جدًا من الصالح الذي يمكن استيعابه بالقرآن والتصديق عليه والهيمنة بالقرآن على جوانبه، وتنقيته به، ثم تجاوزه إلى ما عداه.
قد نجد في كل علم من العلوم النقليَّة التي يستعصي بعضها على الحصر والإحصاء عشرة مسائل أو عشرين أو خمسين أو مائة مما يحتاج إلى مراجعة، ولكن هناك عشرة آلاف أخرى سليمة، يمكن الاستفادة بها، ووضع الضوابط والشروط للتصديق عليها بالقرآن والهيمنة به على جوانبه المختلفة؛ لتخرج بعد ذلك من بين فرث ودم لبنًا خالصًاسائغًا للشاربين، ولو أنَّ هذا التراث عاملناه كما عامل الغربيُّون تراثهم وأعملنا فيه القطيعة البشريَّة المعرفيَّة؛ لخسرنا ولخسرت الإنسانيَّة الشيء الكثير.
لا شك أنَّ هناك نابتة لم تنبت في ظلال التقوى، أعيتهم مسائل التراث أن يحيطوا بها، وأعجزتهم المعاصرة أن يلموا بجوانبها، ووقفوا على شاطئ البحر بعيدًا عنه، لا يصلهم رذاذه ولا أمواجه، ولا أصدافه، ولا لآليه، يشتمونه أن لم يقذف لهم بالأسماك، ولم يخرج لهم اللآلئ، ولم يمكنهم من ناصيته، لا لأنَّهم فعلوا وتخلف، بل لأنَّهم لم يفعلوا شيئًا أصلًا، فما اقتربوا منه، ولا بحثوا في أحشائه، ولا جاثوا خلاله، ولكنَّهم أوتوا طولًا في الألسن، وطموحًا غير مشروع لأماكن لا يستحقونها، وظنوا أنَّهم بذلك سوف يصبحون شيئًا مذكورًا، فإذا شتم أحدهم أبا حنيفة وعابه بقلة الفقه، أو شتم الإمام الشافعي وعابه في اللحن في اللغة، أو شتم أحمد وعابه بقلة البضاعة في الحديث، أو نال من مالك وعاب عليه ما شاء، فإنَّه يكون قد وضع نفسه في موضع الند لهؤلاءـ دون أن يهيئ نفسه أو يأتيه من العلم ما أتى أولئك، فيرفع عقيرته لينال من هذا وذاك، فيصبح مثل ذلك الذي قيل فيه:
إذا عيّر الـــطـائـيَ بالبخل مـادرُ *** وعـيّـر قسًا بالـفهاهـة باقـلُ
وقال السهى للشمس أنت كسيفةٌ *** وقال الدجى للبدر وجهك حائلُ
فيا موت زرْ إنَّ الحياة ذميمة *** ويا نفسُ جدي إنَّ دهرك هازلُ
فعلى طلبة العلم الصادقين في طلب العلم الراغبين في خدمة الأمَّة التحلي بالتقوى أولًا وثانيًا وعاشرًا، والإقبال على النفس:
أقبل على النفس واستكمل فضائلها *** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
ثم بعد ذلك يقبل على التعلم بقلب سليم، وعقل نقي، وصدر منشرح، ووجدان منفتح، ويسأل الله العلم والتقوى معًا، وبمجرد أن يشعر بأنَّ التقوى قد زايلته فعليه أن يعيد نفسه إلى الجادة، ويلزمها الطريق، ويعلم أنَّ السابق قد ترك للاحق الكثير، وأنَّه يستطيع أن يشغل نفسه بما تحتاج أمته في عصره، وأن يستجيب لتحديات عصره، كما استجاب الآخرون من قبله، وأنَّ أهل النار هم الذين: ﴿.. كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ..﴾ (الأعراف:38)، وأمَّا أهل الجنَّة فهم الذين: ﴿.. يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحشر:10). والله ولي التوفيق.
وأذكر نفسي وطلبتي بقول إمامنا الشافعي -رحمه الله ورضي عنه:
شَكَوْتُ إلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي *** فَأرْشَدَنِي إلَى تَرْكِ المعَاصي
وَأخْبَرَنِي بأَنَّ العِلْمَ نُورٌ *** ونورُ الله لا يهدى لعاصي.