Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

لجنة النزاهة في العراق

أ.د/ طه جابر العلواني

احتل العراق وبعض البلدان العربيَّة الأخرى مراتب متقدمة في قضايا الفساد الإداري، واستغلال النفوذ، والرشوة، والمحسوبيَّة، وسائر فروع وقضايا الفساد الأخرى؛ مما جعل كثيرًا من الكتَّاب الغربيين والمراقبين ودارسي المشكلات الاجتماعيَّة والسياسيَّة وظواهر الفساد في العالم الثالث، يفكرون كثيرًا في أسباب تفشي وانتشار ظاهرة الفساد بكل أنواعه في بلدان كان يفترض أنَّها تنتمي إلى حضارة وتاريخ ودين يحجزها عن الفساد كليَّة أو يحول بينها وبين الإيغال فيه والاقبال عليه بتلك الشراهة، التي تدل على أنَّ ضمائر هؤلاء لا تتمتع بأي شيء من الشعور أو الخوف بالوقوف بين يدي الله تعالى، أو أنَّها تؤمن بأنَّه سيأتي يوم ما في الدينا أو في الآخرة سوف تحاسب الأيدي الملطخة بالفساد عن كل ما اقترفته.

 فالقرآن يقول لنا: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة:188)، ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا (النساء:5)، ويقول (جل شأنه): ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (آل عمران:161)، كل ذلك من إيمان وإسلام وإحسان وقرآن وهدي نبوي وسير صحابة وتابعين وآل بيت، وكل تلك المليونيَّات التي تخرج لتبدي الغضب لله (جل شأنه) أحيانًا، أو الغضب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما تأتي للدرهم والدينار تنهار أمامهما، وتجثوا على الركب؛ ولذلك نسب الحلاج إلى الإلحاد يوم وقف بين الجماهير وقال لهم: “دينكم دنانيركم، معبودكم تحت قدمي” وثاروا عليه، وصلب الحلاج، فحفروا تحت قدميه فوجدوا كنزًا من ذهب، حسب ما تقول القصة الأسطورة، ونسب مثل ذلك إلى الشيخ/ محي الدين بن عربي.

إنَّ الفساد والغلول والرشوة والمحسوبيَّة وأكل أموال الناس بالباطل، والاستئثار بالأموال العامَّة داء خطير، ومرض وبيل، إن لم يحاسب الإنسان في دنياه على كل قرش اكتسبه من هذه الأبواب فسوف يحاسب عليها حسابًا عسيرًا في آخرته، ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النور:24)، ويجري الحوار بين الإنسان وبين أطرفه التي استخدمها أدوات للسرقة وحاول تغذيتها بالمال الحرام ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (فصلت:21).

ولقد خجلت خجلًا شديدًا وأنا أسمع نائبة في البرلمان العراقي هي النائبة السيدة/ ماجدة، تعدد آلاف المشاريع الوهميَّة، التي لا وجود لها إلا في أذهان مجموعة من سراق المال العام، وضعوها على الورق، وقدروا لها الميزانيَّات، واستلموا تلك الميزانيَّات واقتسموها فيما بينهم، وقبل ذلك شعرت بخجل أشد وأنا أستمع إلى التقارير الرسميَّة التي تفضح بعض الحكَّام الذين منحتهم أمريكا للعراقيين وهم يسجلون آلاف الجنود والشرطة، ويقدرون لهم الرواتب الضخمة، ويشترون أسلحة وهميَّة، فلا يوجد الجندي ولا السلاح ولا المعسكر ولا القاعدة ولا سواها إلا في الدفاتر التي تتلف بعد حين، عندما ينتهي الحكَّام السارقون من اقتسام الغنائم، وأموال الشعب المسلوبة.

إنَّ العراقيين في هذا البرد القارس يعاني منهم ما لا يقل عن عشرة ملايين الجوع والبرد، والتهجير، والشتات، وانعدام الأدوية والمستشفيات، والاعتماد على الأمم المتحدة وغيرها من فضلات ربا البنوك، وفوائدها، وهبات الشركات، والجهات المانحة، وما إليها، ويموتون وتموت آمالهم، وهم يرون أطفالهم يموتون بين أيديهم من الجوع والبرد والخوف وانعدام الدواء والغذاء والكساء والدفء، وسائر ضروريَّات الإنسان.

إنَّ ما لا يقل عن أربعة مليون عراقي يعيش الفرد منهم دون مستوى خط الفقر، أي بأقل من دولار في اليوم، والعراق يمتلك أغنى مخزون احتياطي للبترول، والغاز، والكبريت، والفوسفات، والفسفور، وسائر أنواع المعادن التي لا تتوافر إلا في بلدين في العالم بكامله بعد العراق وهما أمريكا وإندونيسيا، والعراق لو أغلق أبوابه على شعبه لوجد في أنهاره التسعة ومعادنه وأمواله وثرواته وأراضيه الزراعيَّة ونخله وجباله وسهوله ما يغني العراق وجيرانه ويجعل الجميع في عداد الأغنياء.

ألا يظن أولئك أنَّهم مبعوثون ليوم الدين، ليت من يسمونهم بالمراجع وأهل الفتوى تنبهوا إلى هذا، وقالوا لأولئك الذين يقبِّلون أيديهم وأرجلهم؛ ليسرقوا بفتاواهم وتخديرهم للجماهير، ويحولوها إلى كنوز في البنوك الخارجيَّة، وهم يعلمون: ﴿.. وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (التوبة:34)، لم يقل هؤلاء المراجع وأهل الفتوى لهؤلاء: اتقوا الله، وأعيدوا ما سرقتم إلى شعبكم، فالأموال أموال الله، والذين لهم حق الاستفادة منها الشعوب لا سارقوها، ولا أعداؤها، وإنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال: “من احتكر طعامًا أربعين ليلةً فقد بَرِئ من اللهِ تعالَى وبرِئ اللهُ تعالَى منه، وأيُّما أهلُ عَرصةٍ أصبح فيهم امرؤٌ جائعٌ فقد برئت منهم ذمةُ اللهِ تعالى”[1]، فكيف إذا كان الجياع قد أصبحت أرقامهم بالملايين، وأصبحت أجسادهم معرضة إلى سائر الأمراض بل إلى الموت الزؤام.

لقد عشت في عصر رأيت فيه رئيسين للعراق، أمَّا أولهما: فهو الفريق الركن عبد الكريم قاسم، الذي كان رئيسًا لوزراء العراق بعد أول انقلاب، وحكم العراق بمفرده أربع سنوات ونصف، وطرد أهله وذويه، وفي مقدمتهم أخاه، وأمر جميع المسئولين أن لا يهتموا بهم، وأن لا يفضلوهم على بقيَّة الناس في أي شيء، ولقد أتيحت لي فرصة اطلعت فيها على جميع ما كان يمتلك عبد الكريم قاسم، وذلك حين كلفت مع ثلاثة من الضباط –آنذاك- برئاسة المقدم الركن محمد يوسف أن نقوم بجرد سائر ممتلكات عبد الكريم قاسم، في منزله بالعلوية، وفي مكتبه بوزارة الدفاع، وهنا أريد من كل عراقي وعراقيَّة أن يقف ويتخيَّ

ل كم هي المبالغ التي وجدناها في خزانة عبد الكريم قاسم، لم نجد والله إلا ثلاثة دنانير ثلاثة فقط لا غير، وعدة دراهم، لم تصل كلها إلى أربعة دنانير، وذهبنا إلى منزله في العلوية ولم نجد شيئًا، ولم نعثر على أي رصيد أو دفتر لشيكات، أو حساب خاص، ومات الرجل وألقيت جثته في نهر دجلة سرًا، ولم يترك لأحد من أهله ولا أقاربه درهمًا ولا دينارًا.

وأذكر ذات يوم أنَّ سيدة جاءت إلى منزلي في الكرادة الشرقيَّة وطرقت الباب في يوم قائظ، وعليها عباءة صوف خشنة فسلمت ثم قالت: أتعرفني يا أخي؟ قلت لها: لا، من أنت؟ قالت أنا أخت عبد الكريم قاسم، كنت أسكن في بغداد الجديدة، واستولى انقلابيون على منزلي وطردوني منه، ومعي ولدان وأختهما، وباسم مستعار استأجرت مشتملًا في شارعكم هذا، شارع النقيب في الكرادة الشرقيَّة، ولا شيء معي أستطيع أن أشتري به أي شيء من متطلبات المنزل، وأريدك أن تكفلني، فإنِّي قد أقمت دعوى للحصول على نصيبي في معاش أخي عبد الكريم، وحين أحصل على الراتب التقاعدي سوف أسدد لك ما أنفقته علي، فتذكرت أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقوله: “ارحموا عزيز قوم ذل”؛ فرحبت بها وأكرمتها، وخرجت واشتريت لها كل ما كانت بحاجة إليه، وقلت لها: سيأتيك كل شهر ما تحتاجينه ولا داعي لأن تتصلي بأي أحد، أو تكشفي عن هويتك لأي أحد لا تثقين به؛ لئلا يصيبكم ضرر، هذه قصة ليست من سير الماضين، ولكنها لرجل معاصر عاش وقتل في عصرنا هذا.

والواقعة الثانية أرويها عن: عبد السلام عارف، وكان رئيسًا للجمهوريَّة لعدة سنوات، ونقل عن أخي الكريم أقرب أصدقائه إليه الصديق الوفي الحاج/ عبد الرحمن الإرحيم، أنَّهم لم يجدوا عنده حين سقط في حادث الطائرة غير ما لا يزيد عن ستة دنانير عراقيَّة آنذاك، وكان الرجل يسلم مرتبه كاملًا إلى الحاج عبد الرحمن وهو الذي ينفق من مرتبه على منزله، ويسدد احتياجات أهله ومتطلباتهم.

فأردت أن أذكِّر هؤلاء الذين ملأوا الدنيا صراخًا وعويلًا بالوطنيَّة، والطائفيَّة، وحب الصحابة وحب آل البيت، بنموذجين لا أظن أحدًا يستطيع أن يتقبل أيَّة مقارنة بين أولئك وهؤلاء، وقد ذكرت هذين النموذجين لعل الذين يزعمون أنَّهم حملة دعوة وأصحاب دعوة ورسالة ينكسون رؤوسهم ولا يرفعون عقائرهم بما كانوا ينعقون بما لا يسمع إلا دعاء ونداء.

أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع.

[1] الراوي: عبد الله بن عمر المحدث: أحمد شاكر، المصدر: مسند أحمد، الصفحة أو الرقم: 7/49، خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *