Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

دولة إسلاميَّة في أكبر سجون نيويورك

أ.د/ طه جابر العلواني

قبل سنوات دعتني مجموعة من السجناء المسلمين في أحد السجون الكبرى في ولاية نيويورك لإلقاء محاضرة على السجناء المسلمين، وتفقد أحوالهم، ذهبت إلى هناك، واجتمع حوالي أربعين سجينًا مسلمًا في قاعة أطلقوا عليها مسجدًا في السجن، أدينا الصلاة، وبدأت بمحاضرة ذكرت فيها أهميَّة الحريَّة للإنسان بل وضرورتها له، فلا إنسانيَّة لإنسان لا يملك حريَّته، وأشرت إلى السجن وكيف عرفته البشريَّة قديمًا وحديثًا، وذكرت أنَّ سيد السجناء سيدنا يوسف -عليه السلام، الذي اختار أن يسجن بدلًا من أن يرتكب جريمة الزنا، إلى غير ذلك، وأوصيت السجناء بأن يتخذوا من فترة سجنهم فرصة لإصلاح شأنهم، وإيجاد تحول نوعي في سلوكيَّاتهم وتعاملاتهم وأخلاقهم.

وبعد أن فرغت؛ أثنى كثيرون منهم على المحاضرة، وشكروني على زيارتهم، ثم بدأوا يوجهون لي أسئلة مختلفة، منها البسيط المتعلق بقضايا العبادات من وضوء وطهارة وصلاة وصيام وما إلى ذلك، ومنها أسئلة أخرى في الحلال والحرام، وهناك سؤال وجهه إليَّ أحدهم استوقفني جدًا، ذلك أنَّ أحدهم قال: أليس من الواجب على المسلمين أن يختاروا خليفة لهم يطبق الأحكام الشرعيَّة ويقيم الحدود؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يجب علينا أن نقيم دولة إسلاميَّة في السجن؟ فإنَّ سجننا هذا بعد أن تغلق علينا أبواب صالاته الكبرى (القواويش) نصبح داخل تلك الصالات أحرارًا، لا يستطيع أحد أن يدخل إلينا من الشرطة وغيرهم إلا بإرادتنا، ونحن نستطيع أن نطبق الأحكام الشرعيَّة ونقيم الحدود من الساعة السابعة مساءً حتى السادسة صباحًا، وقد ذكر لنا الفقهاء “أنَّ الميسور لا يسقط بالمعسور” وذلك يعني أنَّنا نقوم بالفرائض بحسب استطاعتنا. وهذه الساعات باستطاعتنا أن نقيم فيها في المحيط الذي نحن فيه من السجن دولة تطبق الأحكام الشرعيَّة وتقيم الحدود، فهل يجب علينا ذلك؟ وهل تسقط عنا بذلك فريضة إقامة الدولة؟.

 لا شك أنَّني صدمت صدمة بالغة بذلك السؤال الذي لم أكن أتخيله، فمن بديهيَّات الأمور أنَّ سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمره الله (جل شأنه) ببناء “أمَّة” ذات مواصفات معينة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وتوحده، وتزكي الناس وتساعدهم على تطهير عقولهم وقلوبهم وأنفسهم وجوارحهم وحياتهم وممارساتهم وأفكارهم وتصوراتهم، وسائر شئون وشجون حياتهم، أمَّا “الدولة” فإنَّ للأمَّة وعليها أن تنظم شئونها بالطرق التي تخدم مقاصد القرآن العليا الحاكمة من توحيد، وتزكية، وعمران، وبناء أمَّة خيرة شاهدة وسط، تكون نموذجًا لسائر الأمم في إقامة الحق، والعدل، وتأمين حريَّة الناس في العبوديَّة للإله، والتدين، والمحافظة على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم، وعقولهم، وحريَّاتهم الدينيَّة، وسائر خصوصيَّاتهم.

 وأدركت أنَّه لابد أن يكون قد زار هؤلاء السجناء المساكين قبلي أناس كان مبلغهم من العلم الدولة والحكومة والسلطة والقوة والسياسة، وأنَّ أحدًا لقنهم أمورًا أدت بهم إلى مثل هذه التصورات الخاطئة، التي أعطت للعمل السياسي وللقوة والسلطة القيمة الأعلى، بحيث صاروا لا يرون الإسلام إلا سلطة وقوة تطبق نظامًا عقابيًّا صارمًا، وتهيمن بذلك النظام العقابي الصارم على أعناق الناس ورقابهم، وأنَّ هؤلاء قد اختزلوا لهم الدين كله من إيمان وشريعة ودين وتدين، لتكون سلطة تطبق نظامًا عقابيًّا صارمًا، تطلق عليه بوعي أو بدون وعي لقب شريعة.

إنَّ المسئولين عن السجون الأمريكيَّة كانوا قبل الحادي عشر من سبتمبر يستقطبون الأئمة والدعاة، ويقدمونهم بكل احترام وتقدير إلى السجناء، ليقدموا لهم المواعظ والإرشادات؛ لأنَّهم لاحظوا أنَّ السجين الذي يعتنق الإسلام تتحسن سلوكيَّاته، ويصبح إنسانًا آخر، فيقلع عن المخدرات والمسكرات، وتزول منه الروح العدوانيَّة الشريرة؛ ولذلك كانوا يقدمون تسهيلات كبيرة للدعاة المسلمين الذين يرغبون في زيارة السجون، وممارسة الدعوة فيها، ولكن بعد الحادي عشر من سبتمبر تغيَّرت الأحوال، وصاروا يحذرون من اتصال الدعاة المسلمين وأئمة المساجد بنزلاء السجون، فهؤلاء النزلاء في السجون والأمريكيَّة منها خاصَّة معظمهم قد دخلوا السجون محملين بأوزار القتل، والجريمة المنظمة، واغتصاب الأموال بالقوة، والسرقة، واغتصاب النساء، وما إلى ذلك، فإذا حمل أحدهم اعتقادًا إذا لم يأخذه من مصادره الصحيحة، ولم يحسن معلموه تعليمه، ولم يحسن التعلُّم؛ فإنَّه سيكون كارثة على من حوله.

ولذلك فقد توصلنا بعد تجارب كثيرة إلى أنَّ من يذهبون إلى هذه السجون لدعوة السجناء وتوجيه المسلمين منهم؛ ينبغي أن يكونوا منتخبين انتخابًا جيدًا، وأن تكون الكلمات التي تلقى عليهم كلمات مختارة، نناقشها جماعيًّا؛ لئلا يلقى عليهم ما يسيئون فهمه، ويندفعوا لتطبيقه بكل ما عرف عنهم من شراسة، وعجلة، وتسرع في استخدام القوة، وما إلى ذلك مما هو معروف، لكن الذين قرأوا تراث المسلمين، الذي تشكَّل عبر فترات التاريخ المختلفة، يدركون أنَّ من المتعذر السيطرة على هؤلاء الدعاة، أو إقناعهم بتغيير خطاباتهم؛ لأنَّ خطابهم صيغ مما تعلموه، ومما تلقوه، وفي إطار فقه تدين دخلته الإصابات المتنوعة في فترات التاريخ المختلفة، ولمثل هؤلاء كان الشيخ الجليل محمد الغزالي -يرحمه الله- يشير في عنوان مقالته المعروفة “لو استراح الإسلام من هؤلاء”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *