أ.د/ طه جابر العلواني
الاجتهاد فسره الأصوليُّون بأنَّه: “بذل الفقيه المجتهد الوسع حتى يعجز عن بذل مزيد”، أي أن يستفرغ من يعد فقيهًا كل طاقته ووسعه في محاولة الوصول إلى ظن بحكم شرعي في مسألة من المسائل، وأمَّا التجديد فقد ربطوه بمجدد فرد يشترط أن يكون فيه القابليَّة على الاجتهاد الفقهي، وأسندوا أفهامهم تلك إلى أحاديث التجديد المعروفة، قال أحمد بن حنبل: روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): “أنَّ الله تعالى يقيض في رأس كل مائة سنة من يعلم الناس دينهم” (رواه أبو بكر البزار). ومن طرق أخرى قال أحمد بن حنبل: “إنَّ الله يقيض للناس في رأس كل مائة من يعلم الناس السنن وينفي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الكذب” (رواه البيهقي). ومن طريق أخرى يقول أحمد بن حنبل: “يروى في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّ الله يمن على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي يبين لهم أمر دينهم”[1].
من المعروف أنَّ القرن الثاني الهجري قد شهد نوعًا من الانفجار السرطاني في المعرفة الفقهيَّة، وجعل الفقهاء يحاولون الهيمنة على كل شيء، ووضعه تحت عباءة الفقه، فالمجتهد هو المجتهد في الفقه، والعالم هو العالم في الفقه، والمجدد هو المجدد في الفقه وأصوله، ولم يُلتف أبدًا إلى دور الأمَّة في الاجتهاد والتجديد، وبذلك أصبحت هذه المصطلحات والمفاهيم إذا أطلقت تبادر إلى الأذهان الفقه وأصول الفقه، والفقيه الفرد، والأصولي الفذ، لا غير، وبذلك هيمن الفقه على كل جوانب الحياة، مع أنَّ الفقه كالقانون إنَّما يلجأ الناس إليه عندما تقوم حضارة، وتقوم الحياة والعلاقات بين الناس، وتظهر بعض المشكلات فيتقدم الفقه أو القانون لمعاجلة تلك المشكلات، فهو لا يصنع حضارة، ولا يقيم ثقافة، بل ينظم الحضارة وما ينشأ عنها من علاقات، ليجعلها مقبولة شرعًا، أو هي في حاجة إلى التعديل والتصحيح فيعدلها ويصححها، وما إلى ذلك، ولكن هذه السيطرة على هذه المفاهيم جعلت الفقه هو المتسيِّد، والفقيه هو ولي الأمر القائم على الاجتهاد والإحياء والتجديد.
وهذا أمر لا يتفق مع القرآن الكريم لا من قريب ولا من بعيد، فالقرآن الكريم حين شرع الاجتهاد والتجديد جعلهما من فرائض الأمَّة، فالأمَّة كلها مطالبة بذلك، لا يستثنى منها أحد، فالاجتهاد فريضة على كل مسلم ومسلمة؛ لأنَّ القرآن أول ما نزل أمَرَ الناس بالقراءتين، واستمر يعلم الناس القلم وما يسطرون، ويعلم الناس القرآن، والبيان، والتبيان، ويعمل على إيجاد عقلية برهانيَّة لا تقبل شيئًا بدون دليل وبرهان يناسبه، وعرف الناس في تلك الأجيال قاعدة: (إن كنت مدعيًا فالدليل وإن كنت راويًا فالصحة). فالعقل المسلم عقل لا ينفتح إلا على الدليل والبرهان والحجة لا في المسموعات ولا في المعقولات والطبيعيَّات وما إليها، فهذه القاعدة عامَّة شاملة في كل شيء، والقرآن يعلمنا إذا ما تلقينا أيَّة دعوى أن نقول: ﴿.. قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ..﴾ (الأنبياء:24)، وبدون ذلك لا تقوم الحجة على إنسان، والله (تبارك وتعالى) جعل للإنسان الحق في أن يطالبه (جل شأنه) بالحجة: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ (النساء:165)، ويطالب رسله بالدليل على صدقهم فيما يدعون إليه، وفيما يطالبون الناس بالإيمان به؛ ولذلك فإنَّ العقل البرهاني هو العقل الذي عمل القرآن على صناعته وبنائه والمحافظة عليه، ولا يتساهل القرآن في شيء من ذلك أبدًا، وذلك يعني أنَّ الأمَّة المسلمة لا ينبغي أن يكون فيها من يقبل شيء بدون برهان، وبدون حجة، وليس لأحد أن يقبل ما يروى له بدون أدلة تدل على صحته، وتفيد اليقين والعلم، فالمؤمن شاهد والأمَّة مجموعة من الشهداء، والشاهد لا يستطيع أن يشهد إلا بعلم، ذلك هو العقل المسلم.
وحين نزل قول الله (جل شأنه): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (النساء:59)، علمت الأمَّة أنَّها تطيع الله (جل شأنه) لربوبيَّته وألوهيَّته وقيام الأدلة القاطعة على وجوده ووحدانيَّته، وتمام قدرته وعلمه وسائر صفاته وأسمائه، وأمَّا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنَّ طاعته مؤيدة بإقامته الدليل المقنع القاطع لكل شبهة على صدقه فيما يدعو إليه، وتأييد الله له بالآيات التي صارت أدلة وبراهين على اليقين والقطع بصحة كونه نبيًا ورسولًا، وأنَّه مرسل من الله برسالة، أمَّا أولوا الأمر فقد قالوا في بيان المراد بهم أنَّهم العلماء والأمراء، وذلك يعني أنَّه لا يكون من أولي الأمر منا إلا عالم مجتهد في المجال العلمي والمعرفي، ولا يكون من أولي الأمر الذين يدبرون شئوننا إلا إنسان عالم كفء نختاره من بين أقدر الناس على تحمل هذه المسئوليَّات، ومن مؤهلاته لها أن يكون مجتهدًا، وأن يكون قادرًا على فهم الرسالة، وفهم القرآن المجيد والاستنباط منه، فهو مجتهد، كما أنَّ العالِم مجتهد. ومؤهلاتهم لكي يكونوا أولي أمر منَّا هي مؤهلات كثيرة، في مقدمتها الاجتهاد والقدرة على تجديد ما هو بحاجة إلى التجديد من شئون الأمَّة، وبذلك يستحق أن يسلك في عداد أولي الأمر منا.
أمَّا عامة الناس فهم مطالبون بأن يتهيئوا نفسيًّا وعقليًّا للالتزام بالعقل البرهاني، وأن لا يقبلوا أي شيء بدون برهان وحجة، ولا يقبلوا أيَّة رواية لا يقيم صاحبها الدعوى على صدقها، والتقليد لا محل له في الإسلام؛ لأنَّ التقليد هو: (قبول قول الغير بلا حجة). والقرآن قد نهانا أن نقبل شيئًا بدون جحة وبرهان ودليل على الصدق، فالمقلد متبع لغير سبيل المؤمنين، ولابد للمقلد لكي يخرج من المسئوليَّة أمام الله أن يعرف الدليل الذي استدل به من يريد أن يقلده أو يأخذ بقوله، أيًّا كان. والعامي المطالب بأن يطيع الله (جل شأنه) ورسوله ثم أولي الأمر، مطالب بأن يجتهد في الأوضاع التي له أن يقلد فيها، ويجتهد في معرفة دلائل أصحاب تلك الأقوال، وبدون ذلك لا يكون في منجاة من المسئوليَّة أمام الله (جل شأنه).
وأولوا الأمر طاعتهم متفرعة عن طاعة الله، وعن طاعة رسوله، ولابد لمن يريد طاعتهم أن يسألهم عن الدليل عن كل ما يقولون ويفعلون، فلا يكفي أن يعِد المرشح ناخبيه لأي منصب عام وعودًا، أو يدعي دعاوى ولا يقيم الدليل على ذلك، فإذا أراد من العامي أن يعطيه صفقة يده ويسمع له ويطيع، فلابد له أن يقيم الدليل على صحة كل ما وعد ناخبيه به، والله (تبارك وتعالى) يقول لنا: ﴿.. وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ..﴾ (النساء:83)، فأولوا الأمر إذًا لا ينبغي للعامي أن يقبل منهم شيئًا سواء أكانوا علماء أو حاكمين، من غير أن يقيموا الدليل على صحة دعواهم، وصدق مدعاهم، بحيث يقتنع بأنَّ ذلك هو المقبول والأصلح والأحسن عند الله.
لذلك حين يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): “سيدُ الشهداءِ حمزةُ بنُ عبدِ المطلبِ، ورجلٌ قامَ إلى إمامٍ جائرٍ فأمرَهُ ونهاهُ، فقتلَهُ”[2]، يريد أن لا يكون الناس أغنامًا تسيطر عليهم طبيعة القطيع فيسيرون خلف كل ناعق، فإنَّهم إن فعلوا ذلك فلن يكونوا عباد الرحمن، ولا عباد الله، ولا الذين أناط الله بهم مهمة الاستخلاف والأمانة والوفاء بالعهد، والفوز بالجنة والنجاة من النار يوم الحساب.
فيجب على الأمَّة كلها أن تجتهد في كل شأن من شئونها، ويسودها الوعي، ولا تسمح باجتيال الشياطين بها أو الذهاب بها يمينًا ويسارًا كما يشاؤون، ولا تستطيع شياطين الإنس والجن أن يحرفوهم عن الطريق أو يصدوهم عن السبيل، تلك هي الأمَّة التي وصفها الله بالخيريَّة والوسطيَّة، وأوكل لها مهمة الشهادة على الناس، فالشاهد حاضر واع لا يغفل وإلا فلا يكون شاهدًا، فحين نسب الاجتهاد إلى الفقهاء فقط، ثم أضيفت إليهم أيضًا مهمة التجديد تقاعست الأمَّة، وقعدت، وسادها التقليد، واستبد الحكَّام بسائر شئونها، واستبدت النخبوة مثل استبداد الحكَّام بمقدراتها الثقافيَّة والمعرفيَّة والمنهجيَّة، فوصلت الأمَّة إلى حالة الغثائيَّة التي وردت في الحديث الشريف: “يوشك الأممُ أن تتداعى عليكم، كما تتداعى الآكلةُ إلى قصعتِها، فقال قائلٌ: ومن قلةٍ بنا نحن يومئذٍ؟! قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيلِ، ولينزعنَّ اللهُ من صدورِ عدوكم المهابةَ منكم، وليَقذفنَّ في قلوبِكم الوهنَ، قال قائل: يا رسول اللهِ! وما الوهنُ؟! قال: حبُّ الدنيا، وكراهيةُ الموتِ”[3].
فالأمَّة اليوم في حالة غثائيَّة، تحمل عقليَّة عوام، وطبيعة قطيع، ونفسيَّة عبيد، تعتز بالاستبداد، وتسعى إليه إذا فقدته، وتحن إليه إذا بعد عنها، وتحب الرجوع إليه، وعند جماهيرها “ما أحلى الرجوع إليه”، والنماذج على ذلك كثيرة؛ لذلك فقد بلغت الحال من السوء والتردي أن صارت أمَّتنا وقد عايشت فقدان الاجتهاد والتجديد واستظلت بظل الاستبداد كل تلك القرون؛ لذلك صارت تشتاق إليه، وتسوغه.
إجلس في أيَّة مقهى أو اركب أي سيارة أجرة واستمع إلى أحاديث الناس لتسمعهم يقولون في كثير من الأحيان: لا ينفع أن يكون الحاكم ضعيفًا، لابد أن يكون جبارًا عنيدًا قاسيًا ليقود الناس، لا تنفع الرحمة بل لابد من القسوة. وأحاديث العامَّة هذه لا ينبغي أن نستخف بها؛ لأنَّها تعبر عن ثقافة كامنة وظاهرة لم تستطع أن تقتلعها ثقافة دينيَّة ولا دنيويَّة، ولا المصائب التي أصبحت تتابع وتنزل ليل نهار على رؤوسها، من أحزاب وفئات ومتسلطين من حكَّام، أو من يسمونهم رجال دين، أو رجال دعوة، … إلى آخره.
وما لم نصحح مفاهيم الأمَّة ونغيِّر في طبيعتها وعقليَّتها، ونعلمها أنَّ الاجتهاد حالة عامَّة عقليَّة ونفسيَّة يجب أن لا يخلوا منها مسلم أو مسلمة، وأنَّ التجديد مسئوليَّة أمَّة بكامل أفرادها وليست واجب نخبوة، وأنَّ على كل فرد من أفراد الأمَّة ذكرًا كان أو أنثى، شابًا أو كهلًا أو شيخًا أن يقوم بواجبه في مجالات الاجتهاد وفي مجالات التجديد، ونبذ التقليد والتخلُّص من عقليَّة العوام، ونفسيَّة العبيد، وطبيعة القطيع؛ وإلا فلن تقوم لنا قائمة.
[1] مفهوم تجديد الدين، بسطامي محمد سعيد (جدة، مركز التأصيل للدراسات والبحوث، 1433ﻫ/2012م) ط2، ص 24.
[2] الراوي: جابر بن عبدالله المحدث: السيوطي، المصدر: الجامع الصغير، الصفحة أو الرقم: 4747، خلاصة حكم المحدث: صحيح.
[3] الراوي: ثوبان مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المحدث: الألباني، المصدر: تخريج مشكاة المصابيح، الصفحة أو الرقم: 5298، خلاصة حكم المحدث: صحيح.