أ.د/ طه جابر العلواني.
هل كان ظهور النفط في بلادنا نحن المسلمين نعمة أم نقمة؟
السؤال الذي طرحناه قديمًا ما زال صالحًا أن يطرح مرات ومرات، ولا أجد له جوابًا صادقًا إلا أن نقول: لقد كان النفط نعمة كبيرة على الحضارة الغربيَّة وأصحابها والمستفيدين بها، ولكنه نقمة على دول وشعوب وقرى وأرياف بلاد منابع البترول، أمَّا كونه نعمة فقد يسر الكثير من شئون وشجون الحياة على البلاد المتحضرة، وجعل المنجزات الحضاريَّة تتضاعف على أيديهم أضعافًا مضاعفة، والثورات العلميَّة والتقنيَّة، أمَّا نحن العرب والمسلمين فقد أحدث فينا ظهور البترول والبترودولار كثيرًا من السيئات وقليلًا من الإيجابيَّات، فهو بالنسبة لنا مثل ما قال الله (تبارك وتعالى) في الخمر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ..﴾ (البقرة:219).
فلولا البترول وأموال البترول لما شهد الحرمان تلك التوسعات الهائلة، ولا شهدت بلاد الحرمين تلك الطرق السهلة الميسرة، والفنادق، والعمران، والازدهار التجاري والزراعي وما إليها، وكذلك الحال بالنسبة لسائر دول الخليج والعراق وما إليها، وأمَّا الدول المحيطة بالمناطق البتروليَّة فقد استفادت القليل وخسرت الكثير، ولو أردنا أن نبين ذلك تفصيلًا لاقتضى ذلك منَّا أكثر من كتاب ودراسة أو سلسلة من الندوات العلميَّة؛ لبيان تفاصيل الفوائد وتفاصيل المضار، ولكنَّنا نريد أن ننبه الأذهان إلى ذلك ونترك للمتخصصين تتبع التفاصيل، والوصول إليها، فذلك هو الأجدر والأليق بنا وبهم.
لقد خسرنا العراق كله بسبب البترول، وكدنا نخسر الكويت بسبب البترول، ونتعرض إلى التهديد صباح مساء بسبب البترول، وهذه ليبيا تتمزق بسبب البترول، فالمال ومنه البترول حين يكون بأيدي حكيمة راشدة يكون مصدر خير ومنبع رحمة وبركة، فلو استعملت أموال البترول في إنماء العالم الإسلامي وإقالته من عثرته لتفوقت المجموعة الإسلاميَّة اليوم على المجموعة الأوروبيَّة بل وعلى أمريكا أيضًا، فضلًا عن روسيا وغيرها، فالسودان لو جرت تنميته مع مصر بالبترول والمال الليبي لكانت لدينا اليوم دولة عظيمة كبيرة، تستطيع أن تسود المنطقة، فلا تطمع فيها دولة إقليميَّة ولا أجنبيَّة، ولا يدمر العراق، ولا يهدد الخليج، ولا يدمر الوجود الإسلامي في فلسطين والأردن وبلاد الشام، ولو استثمرت واردات الذهب الأسود في إنماء جنوب شرق آسيا إندونيسا وماليزيا وخاصَّة بترول وموارد بروناي لكانت لدينا دولة عظمى أخرى في جنوب شرق آسيا، ولو استثمرت أموال البترول في دول الخليج والحزام المحيط بها اليمن وتركيا وإيران والباكستان لكانت هناك دولة عظمى أخرى، ولأمكن آنذاك أن يحمى العالم الإسلامي بكل أجزائه، فلا تشكل الهند تهديدًا للباكستان وبنجلادش بين فترة وأخرى، ولا تتشاكس تركيا وإيران وتعيدان إلى الأذهان الحروب الصفويَّة العثمانيَّة التي استمرت ثلاثمائة وخمسين سنة، واتخذت من العراق أرضًا لمعاركها وميدانًا لتصارعها، إلى غير ذلك.
ولكن ترك البترول لأمريكا، وشيء منه لأوروبا، فتحكموا في الأسعار، يرفعونها متى شاؤوا ويخفضونها متى أرادوا، ويدفعون الفتات لدول الأرض دول المنابع، ويستأثرون بكل شيء، وبهذه الطريقة يتحكمون في ميزانيَّات شعوبنا ودولنا، وفي المصارف التي نصرف فيها أموال البترول، فلابد لنا من شراء أسلحة، لتشتغل مصانع السلاح لديهم، ولابد لنا من شراء وتجديد أساطيل الطائرات، لتشتغل المصانع، وتزدهر تلك البلدان، ولابد من إيداع أموالنا لديهم وبقاءها مرتهنة عندهم، يحولونها كما شاؤوا من جيب إلى جيب، ومن يد إلى يد، أمَّا المنتجون فيقال لهم ما قال أحد الصائدين الشريكين وهو الأقوى منهما: إن كنت تريد أرنب فخد أرنب، وإن كنت تريد غزالًا فخذ أرنب. وما الأرنب إلا ذلك الفتات الذي يقدمونه لنا لينفق بمعرفتهم وبعلمهم ومشورتهم بمصارف تم تحديدها من قبلهم مسبقًا، من سلاح، ومصروفات استهلاكيَّة، سلاحًا ندمر أنفسنا به، ومصروفات استهلاكيَّة، ها هي أسعار البترول تخضع لإرادتهم، إن شاؤوا رفعوها وفقًا لاحتياجاتهم الاقتصاديَّة ورؤاهم السياسيَّة، وإن شاؤوا هبطوا بها إلى النصف وربما إلى الصفر لو أرادوا.
إنَّ علماءنا ومثقفينا وقادة الرأي فينا والقواد السياسيين مطالبون بدراسة أزمات العالم الاقتصاديَّة، ودور البترول فيها، وكيفيَّة العمل على أن نكون شريكًا فاعلًا في إدارة هذه الأزمات لا من أجل زيادتها ولا من أجل تدميرهم بها كما يفعلون فينا، بل من أجل حماية العالم كله من الدمار ومن الخراب الذي يجر السفهاء العالم إليه، لعلنا في ذلك نرشد القرار، ونحمي العالم من تلك النتائج المدمرة التي يقود السفهاء العالم إلى السقوط فيها.
إنَّه لا ينبغي أن نظل مجرد منفعلين ننتظر من الآخرين أن يخططوا ويقرأوا المستقبل ويرسموا الاستراتيجيَّات ثم يلقون لنا بالفتات دون أن يكون لنا رأي أو قرار، وآن لبلداننا أن تنظر إلى وحدتها نظرة جادة، وتبدأ خطوات الألف ميل، سواء بالطريقة التي بدأت بها أمريكا بتوحيد ولاياتها أو أوروبا أو أيَّة وسيلة أخرى، فلم يعد في عالم اليوم مكان للدول الإقليميَّة الصغرى، ولا حماية لها، ولا وجود إلا بإرادة أصحاب المصالح والأسواق والبنوك والمصانع، والشركات العابرة للقارات، والمنظومة لابد أن تكون متكاملة، ولابد من يقظة العالم العربي قبل أن يسحق ويشنق بحبال بتروله.
اللهم هل بلغت اللهم فاشهد.