Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

نحو التأليف بين القلوب

د.طه جابر العلواني

للتغيير مضمون فلسفي يحكم ضوابط التركيب المستقبلي للمجتمعات، وهذه الضوابط هي سنن وقوانين ثابتة تحكم سيرة إعادة التركيب والبناء بعد التفكيك، كما أنَّ لبناء الأمم والمجتمعات -ابتداء- سننًا وقوانين ثابتة تحكم مسيرة البناء الحضاريِّ والاجتماعيِّ والثقافيِّ وسائر تلك السنن والقوانين -سواء منها ما كان لإقامة بناء الأمة ابتداء, أو لإعادة البناء وتجديده- يتصل بخصائص الأمَّة المعنيَّة الذاتيَّة, وقوانين الحركة التاريخيَّة وتفاعلاتها, وباللَّحظة الزمنيَّة ومتعلَّقاتها المحليَّة والعالميَّة, ومعرفة تلك اللحظة، ما إذا كانت لحظة سلام أو حرب، ازدهار أو انكماش, متداخلة التأثير أو لا تداخل فيها؟ وفهم تلك السنن والقوانين والقواعد -المتعلقة بالتغيير- يُعَدُّ شرطًا لازمًا مسبقًا لبناء استراتيجيَّة التجديد والإصلاح والتغيير؛ إذ بدون فهم هذه السنن والقوانين والقواعد لن يستطيع حملة ألوية الإصلاح والتجديد والتغيير اكتشاف المحركات الأساسيَّة للتغيير, ولا الأساليب الناجحة فيه بدون فهم هذه القوانين. والإسلاميُّون لم يورثهم الواقع التاريخيِّ الإسلاميِّ, ولا الوعي التاريخيِّ خبرات وتجارب تربط بين إحداث التجديد والإصلاح والتغيير وبين قوانين وسنن «التحوُّل الاجتماعيِّ»؛ ولذلك فإنَّ أفهام الكثيرين تنصرف إلى عمليَّات التجنيد والاستقطاب الكميِّ لتجميع الأعضاء والأنصار والمؤيدين، مع أنَّ القرآن المجيد كان شديد الصراحة في التهوين من شأن الكثرة العدديَّة، وإعلاء شأن السنن والأخلاق وقوانين الحركة الاجتماعيَّة والتاريخيَّة والثقافيَّة والقيميَّة؛ ولذلك تشيع بين هذه الحركات مقولة: «علينا العمل، والله -وحده- المسؤول عن النتائج»، والعمل المتفق المستوفي للشروط والأركان, وسائر متطلِّبات ومقدِّمات النجاح يؤدي -ولا شك- إلى بلوغ النتائج.

وإذا لم نجد في واقع المسلمين التاريخيِّ نماذج لفهم آثار هذه القوانين والسنن فإنَّ في قصص القرآن الكريم وأمثاله، والنماذج التاريخيَّة التي قدَّمها, ولفت الأنظار إليها، ما يُغنينا -لو أحسنَّا التدبُّر- ويكفينا حين نتدبَّر كيف يتفاعل الوحي الإلهيُّ مع نسبيَّة الواقع البشريِّ في تجارب النبوَّات كافَّة، ومنها الرسالة الخاتمة التي نسخت بعالميَّتها الاتجاهات الحصريَّة في الرسالات السابقة.

ففي الرسالة الخاتمة يُبيِّن الوحي الإلهيُّ كيف ألَّف الله بين قلوب العرب التي مردت على النفرة من إلف أحد خارج نطاق المنظومة القبيليَّة، فلم تعرف تجمعات إنسانيَّة، مثل «القوميَّة» أو «الأمَّة أو الملَّة»؛ ولذلك لم يفرض الإسلام عليها التخلِّي عن جميع الخصائص, والانصهار في بوتقة «وحدة اندماجيَّة قسريَّة»؛ لأنَّ واقع العرب الفكريِّ والثقافيِّ والحضاريِّ ما كان ليسمح بذلك، ولو فرض فرضًا لانفجر من داخله؛ ولذلك كان لابد من إعطاء سنن وقوانين «التحوُّل الاجتماعيِّ» الفرصة للتفاعل مع الوجهة الإسلاميَّة لبناء «الأمَّة والملَّة» ليجري ذلك التحول بعد التفاعل مع معطيات الواقع النسبيَّة بشكل طبيعيٍّ، فبدأ بإعلان «الهجرة والمؤاخاة» بين المهاجرين والأنصار، وتهميش دور صلات الأرحام في بادئ الأمر: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ*وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ*وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (الأنفال:72-75), ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ (التوبة:114), ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحشر:9-10), ﴿لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ*قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير﴾ (الممتحنة:3-4).

ولذلك كان «التأليف بين قلوب العرب» من الآيات الإلهيَّة العظيمة التي منَّ الله بها على المؤمنين، بحيث قال، ناسبًا التأليف إلى ذاته العليَّة: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال:63).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *