د.طه جابر العلواني
«المراجعات» جمع «مراجعة»، وهي من «رجع» بمعنى «عاد», والرجوع: العود إلى البدء، سواء أكان بدءًا حقيقيًّا أو تقديريًّا, و«رجعُ الكلام»: الإجابة عنه، ويقال للكلام المردود «كلام رجيع» أي مردود، وقد كثر ترديد مصطلح «المراجعات» مؤخرًا.
وقد عملت على تأسيس مادة دراسيَّة درَّستها في جامعات عديدة، سمَّيتها «مراجعات في الفكر والتراث الإسلاميِّ» ولقد كانت لها فوائد جمَّة، والشيخ سليم البشري -يرحمه الله- ترك تراثًا هامًّا أطلق عليه «المراجعات» لقضايا كان يراجعها ويحاور بعض أئمة الشيعة فيها، ويُنقل عن ابن مسعود أنَّ أعرابيًّا جاء يستفتيه فأفتاه باجتهاده ثم اكتشف بعد ذهاب الأعرابيِّ خطأ فأصرَّ على أن يبحث عن الأعرابيِّ, ليُصحح له فتواه.
وقد شاع بين أهل الاجتهاد والفتوى ألاّ يُفتي العالم باجتهاده أحدًا، إلاّ إذا وثق من الوصول إليه لتصحيح فتواه قبل العمل بها إذا اكتشف خطأ, ولدينا تراث أدبيٌّ كثير في آداب رجوع العلماء عن أقوالهم, بل يمكن أن نقول أنَّهم تركوا لنا مناهج للمراجعات وفقهًا فيها، لاشك أنَّه ثروة كبيرة لو تم استخراجها وتدريسها لطلبة العلوم الشرعيَّة خاصَّة فستعود عليهم بفوائد جمَّة.
إنَّ الحركات الإسلاميَّة المعاصرة وجدت نفسها لأسباب كثيرة في حالة فصام مع المؤسَّسات الدينيَّة, فبدأت تنشئ لنفسها لجانًا وعلماء يستطيعون أن يتفهموا قضاياها ويُلبُّوا احتياجاتها الفقهيَّة. ولمّا بدأت حركات الانشقاق والانشطار في تلك الحركات؛ فصار فيها المعتدل والمتطرف والوسط, أصبح لكل مجموعة من تلك المجاميع فقهاؤها ومفكروها الذين يتصدَّون لقضايا تلك الحركات بانتقائيَّة وبشكل يعوزه الحوار العلميُّ في بيئة علميَّة حرَّة، على مستوى مناسب يسمح بغربلة الفتاوى والأفكار ومناقشتها والاطمئنان إلى سلامتها ومنهجيَّتها، ولم يكن ذلك متاحًا، فجاءت في كثير من تلك الفتاوى ثغرات معرفيَّة وتسرُّع في الاستدلال والتعليل والاستنباط، وفي بعضها افتراءات على الأمَّة صريحة، وفي بعضها ترخيص بعظائم تحتاج إلى كثير من الدراسات المتأنيَّة قبل الاقتراب منها، وفي بعضها تشدُّد أملته ظروف الفقهاء المتقدمين؛ كبعض فتاوى ابن تيمية في مرحلة الحروب ضد التتار وبقايا الحروب الصليبيَّة, وكثير مما جاء في نحو كتابه الهام «اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم» الذي جرى تأليفه في ظل تلك المؤثرات النفسيَّة على الشيخ -يرحمه الله- فمن يُفتي بما فيه من فتاوى الشيخ واجتهاداته في تلك المرحلة دون ملاحظة تلك الظروف فإنَّه سوف يكون مجازفًا في فتواه, وسوف يجد نفسه -ولو بعد عقود- مضطرًا للقيام بمراجعات، بعد أن يكون الكثيرون قد عملوا بتلك الآراء والفتاوى وسارت بها الركبان.
إنَّ المراجعات تستحق التأييد والتشجيع على أن تكون مراجعات شاملة للأصول والفروع والمنهج، بحيث يترتب عليها تصحيح مناهج النظر في الأصول والقواعد والمنطلقات التي انطلق منها هؤلاء وأسَّسوا عليها ذلك الفقه المرجوع عنه، وألاّ يقتصروا على القيام بانتقاء فتاوى أخف بعد أن أخذوا بالأثقل والأشد قبلها، فذلك لن يعالج الأزمة, ولن يحلَّ الإشكاليَّة.
وإذا كنَّا نرحب بالمراجعات من أيِّ طرف كفؤ، فإنَّنا نرجو أن تكون هذه المراجعات شاملة للقيادات والمسئولين وصنَّاع القرار والحاكمين والمحكومين ومسؤولي مؤسَّسات الأمَّة والدولة، فكل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون، وإذا كان رسول الله يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم والليلة سبعين مرَّة وهو المعصوم, فما بال سواه؟!
إنَّنا ندعو الجميع إلى بناء ثقافة المراجعات مهما كانت مراكزهم، والتشجيع عليها, وجعلها سمة عامة لجميع المتصلين بالشأن العام، والأمَّة كلّها مدعوّة إلى مراجعة تراثها العقليِّ والفكريِّ مراجعة دقيقة، يقوم بها علماء وخبراء وفنِّيُّون, علماء في مجالات العلوم النقليَّة والعلوم الاجتماعيَّة والإنسانيَّة والطبيعيَّة في نور القرآن وهديه، وفي نور السنة والسيرة الشريفة، وحياة رسول الله ومنهجه في الدين والتديُّن لتستقيم الحياة.