د.طه جابر العلواني
الخلاف أمر طبيعيٌّ في حياة البشر، ولقد جعل الله -سبحانه وتعالى- الخلافات الطبيعيَّة -في الألسن والألوان وما إليها- دليلاً وشاهدًا على وجوده وألوهيَّته وربوبيَّته، فقال سبحانه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾ (الروم:22)، وأمَّا الاختلافات في الرأي والفكر فهي اختلافات يمكن للناس أن يعالجوا أجزاء منها بالحوار والجدال بالتي هي أحسن؛ لتقليل مساحتها، أو لوضعها في إطارها الطبيعيِّ وتحديد مستواها، فإذا بقيت واستمرت فينبغي أن تُحاط بما عرف «بأدب الاختلاف»، بحيث لا ينكر أحد من المختلفين مزايا الآخر ولا أهميَّة تفكيره، ولا ما هو صحيح من آرائه وأفكاره، فالأصل عدم تشخيص الأفكار، بل تجريدها عن الشخصنة كما قال قائلهم:
ولقد عرف تاريخنا صفحات نيِّرة من أدب الاختلاف على سائر المستويات، بما في ذلك المستويات العقديَّة، فالإمام أبو القاسم الأنصاري -من علماء القرن الرابع الهجري- سُئل عن قوله في الأشاعرة ومذهبهم في تأويل الصفات الإلهيَّة تأويلات قد لا تنسجم ومراد الله -تعالى- فيما وصف نفسه به، فقيل له: “يا إمام أتكفرُّهم بما أوّلوا؟”، فقال: “لا؛ لأنّهم اجتهدوا في تنزيهه فنزهوه سبحانه”، فقيل له: “وماذا عن المعتزلة والذين نفوا الصفات الإلهيَّة، أتكفِّرهم بما نفوا من الصفات الإلهيَّة؟” فقال: “لا؛ لأنَّهم عظَّموه”. فهذا الإمام الجليل نظر إلى مقاصد الناس لا إلى ألفاظهم؛ ولذلك فإنَّه قد اعترف لهم جميعًا بالإيمان والإسلام، بل أثنى عليهم فيما قال.
وكان اللُّغويُّ المعروف أبو بكر الرازي يعيش في مدينة الري _التي هي طهران الحالية_ وكان شافعيَّ المذهب، فأعلن تحوُّله عن المذهب الشافعي إلى مذهب الإمام مالك، فسارع البعض إليه وقالوا له: ما الذي حملك على التحول عن مذهب الإمام الشافعي إلى مذهب الإمام مالك؟ ألأنَّ الإمام مالكًا إمام دار الهجرة وأقرب للالتزام بالسنّة أم لماذا؟ فقال: “كل ذلك لم يحدث، وكلاهما عندي إمامان جليلان، ولكنِّني وجدت أنَّ هذا البلد -يعني «الري»- يعج بالمقالات والمذاهب، ولم أجد من يتمذهب بمذهب هذا الإمام الجليل -الإمام مالك- فأردتُ أن أعمّر مشهد الانتساب إلى هذا الإمام في هذا البلد؛ ليكمل له فخاره”.
فانظر كيف ضرب لنا هؤلاء الأئمّة هذه الأمثلة الرائعة ليعلِّموننا أنَّ التعدُّد ضروريٌّ، وأنَّ الاختلاف طبيعيٌّ، وأنَّ قبول ذلك لا يكفي وحده، بل لا بد من رعاية المخالف، والاهتمام بفكره، وإبراز ما لديه؛ ليكون في ذلك ثراء وغنى للحالة الفكريَّة لدى الأمّة، فما الذي يجعل هؤلاء القوم تضيق صدورهم بالمخالف، وتنتفخ أوداجهم لسماع ما يخالف ما ألفوه، وقد يندفع بعض نابتتهم إلى نفي المخالف ومحاصرته والتضييق عليه، ظنًّا منهم -«وبعض الظنّ إثم»- أنَّ الحق معهم وحدهم، وأنَّ كل ما يخالف مذاهبهم وآراءهم ومقالاتهم باطل وغير صحيح، وخطأ ينبغي أن يُحال بين الناس وبين سماعه!!
وفي علم «أصول الفقه» -من علومنا الإسلاميَّة- مسألة هامة، أتمنى أن يعرفها ويتعلمها جميع أبنائنا وعلمائنا وكتّابنا، وهي مسألة «وحدة الحقيقة أو تعددها»، يبحث علماء «أصول الفقه» هذه المسألة عادة في مباحث الاجتهاد، ومذهب الغالبيَّة العظمى أنَّ «الحقيقة» مثل كنـز دفين، وأنَّ مهمَّة المجتهدين والعلماء أن يجتهدوا لمقاربتها والوصول إليها، وذلك هو الواجب الشرعيُّ على كل منهم، وقد يصيبها البعض ويخطؤها البعض الآخر، فمن أصاب أثابه الله بثوابين: أحدهما هو أجر الاجتهاد للوصول للحقيقة، والثاني أجره في إصابتها بتوفيق الله له في ذلك، ومَنْ أخطأ الحقيقة منحه الله أجرًا واحدًا هو أجر الاجتهاد، ويبقى العلم بمن أصاب الحقيقة ومَنْ لم يُصبها عند الله تعالى.
أمّا المقاييس البشريَّة فإنَّها تتعلق بالاجتهاد ذاته: هل بذل هذا المجتهد كل ما في وسعه، أو أنَّه لم يفعل ذلك؟