أ.د/ طه جابر العلواني
نشأت في بيئة عربيَّة مسلمة تأنف وتستنكر وتستحرم وتستقذر الشذوذ الجنسي بكل أنواعه، وإذا حدث واتهم أحد بهذا الانحراف تصبح فضيحة قد تدفع ذلك الذي أشيع عنه الانحراف إلى مغادرة المدينة في أقرب وقت وعليه سواد، فالمدينة نفسها تنكر وتستنكر من يقوم بذلك العمل، وحين انتقلت من الفلوجة إلى بغداد بدأت أسمع كلمة فلانة وفلانة (باجيات)، وفلان وفلان (…)، في البداية لم يكن سمعي يطيق شيئًا من ذلك، وأذناي يستهجنان ويستنكران ذلك إلى درجة كبيرة.
وحين انتقلت إلى مصر بدأت أسمع ذلك في معرض نكات، يقولها الظرفاء، يتندرون على من ابتلي بذلك الشذوذ الجنسي أو الانحراف من الرجال أو النساء، ولكن لم أر طيلة فترة سكناي في القاهرة أحدًا من هؤلاء، ولم يكن الناس يكثرون الحديث عن ذلك الأمر، ولكن كنا نسمع كلمة (…)، عندما نمر في بعض الشوارع وتكون هناك معركة، فيتبادل المتشاجرون تلك الكلمة، ولم نكن نتوقع أن يحدث ذلك في بلاد العرب والمسلمين.
وخالد بن الوليد -رضي الله عنه- حين غزى بعض المناطق النائية من جزيرة العرب في عهد الصديق أبي بكر -رضي الله عنه- كتب إلى أبي بكر يقول له: “يا خليفة رسول الله لقد وجدت في هذه الناحية أمرًا عجبًا، فقد عرض عليَّ أبناؤها رجلًا ينكح كما تنكح المرأة، وهي كما تعلمون حدث ليس مألوفًا في جزيرة العرب، ولا أدري ما الحكم الشرعي لهذا الفعل؟”، فكانت تعتبر أول جريمة لواط بعد قوم لوط تظهر في جزيرة العرب، واختلف الرواة في نصيحة أبي بكر أو فتواه لخالد، ولكن كان بعض ما قيل مرويَّا عنه أنَّ الصديق أمر خالدًا بأن يلقيه من شاهق -أي من قمة جبل- أو يحرقه بالنار، ثم استدرك وقال له: لا تحرقوه بالنار، فالنار أعدت لأمثاله في الدار الآخرة لا في الدنيا، ولكن ألقوه من شاهق، أو أقيموا عليه حد الزنا.
والذي ورد في كتاب الله في غير قوم لوط قوله تعالى: ﴿وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ (النساء:16)، فكأنَّ المطلوب إيذاء من يقع في هذا المنكر الخطير، حتى يتوب أو يموت، فاللواط والسحاق من الأمور المدمرة للأسرة، وللإنسانيَّة والحياة البشريَّة وللمجتمعات وللحضارات، فاستخلاف آدم في هذه الأرض بني منذ البداية على أن يكون هناك أسر تتحول إلى قبائل وشعوب وأمم تستخلف في الأرض، فتقيم الحق والعدل فيها، وتعمرها، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء:1).
فهي ليست جريمة عاديَّة، بل جريمة مدمرة لكل ما ذكرنا، وإذا انتشرت هذه الجريمة في مجتمع فلا أمل لذلك المجتمع بأن يستعيد ذاته، أو يعيد بناء منظومة الأسرة فيه، أو يطمع في أن يبني حضارة أو يقيم عمران، والعقوبة التي عاقب الله بها قوم لوط شملت المدن كلها التي شاعت فيها هذه الجريمة الفاحشة، فشملت الإنسان والحيوان بل والحجر؛ ولذلك قال (تبارك وتعالى): ﴿فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ (هود:82-83)، وما من جريمة أخرى عاقب الله (جل شأنه) عليها بمثل هذا العقاب.
ومنذ سنوات خرجت مظاهرة في الكويت، كان فيها ثمانمائة من هؤلاء الشواذ، يطالبون لأنفسهم بحقوق، وسمعت نداءات في مناطق مختلفة من العالم العربي والإسلامي وفي الخمسينيَّات وقبل ترك بريطانيا لقاعدتي الحبانيَّة والشعيبة كان فيهما البغاء معلنًا، ففي الميدان في بغداد مقابل وزارة الدفاع كان المبغى العام -نعوذ بالله- لممارسة الزنا، وكان إلى جانبه ما يعرف ب”جورج نزار” وهو محل لممارسة الشواذ جنسيًّا الشذوذ، وكان بعض المسؤولين آنذاك يعتذرون بوجود القوات البريطانيَّة في العراق واحتياجها إلى الاستمتاع بالزنا -والعياذ بالله- وبالشذوذ، فبدلًا من أن يترك هؤلاء يسرحون ويمرحون في طول البلاد وعرضها وينشرون فسادهم في كل مكان حصرناهم في مكان معين ليمارس من شاء من الجنود البريطانيين الزنا أو اللواط -والعياذ بالله- في ذلك المكان المحدد المحصور، ولإخضاع الزانيات والفاعلين فعل قوم لوط للفحص الطبي بوجودهم في مكان قريب من المستشفى المجيدي العام الذي يسمى الآن مدينة الطب على ما سمعت.
وكانت المومسات يخرجن بطابور يحيط به رجال الشرطة كل يوم، إلى الفحص في المستشفى والعودة بذلك الموكب المماثل، واشتهر بعض الشعراء والفنانين بهذا الفعل الشنيع، وتركت الأمور، وفهمنا من الناحية الشرعيَّة أنَّ هذه الجريمة تعامل معاملة الزنا، ويعاقب ممارس هذا الشذوذ بمثل عقوبة الزنا -والعياذ بالله-، ولكن لم نشهد في طول بلاد العرب وعرضها حالات إقامة حدود على هؤلاء، لا لعدم وجودها، ولكن لعدم انتشارها، وعدم شعور الحكومات بأنَّ هناك ما يقتضي رصد هذه الجريمة وتتبع أصحابها بالعقاب والمحاصرة والإيذاء حتى يتوبوا أو يتوقفوا عن تلك الممارسات.
ومصر كانت غير معروفة فيها تلك الجريمة إلا على المستوى الذي ذكرت، وبعد ثورة يناير كتبت باحثة إسرائيليَّة كتابًا أوردت فيه أرقامًا -لم تصدق في حينها- عن انتشار هذه الجريمة في أوساط الشباب، وأوردت صورًا لشباب يمارسون هذه الرذيلة فوق العمارات العالية في وسط البلد، مثل يعقوبيان وغيرها، ولم يدر الناس صحة ما ذكرت تلك الصحفيَّة حتى جاءت قضيَّة المركب النيلي، الذي احتفل فيه بعض المثليين بما سموه بالزواج المثلي، وأحيلت إلى إحدى المحاكم في القاهرة، وذكرت بعض وكالات الأنباء أنَّ المحكمة اعتبرت ذلك جنحة.
وفي الولايات المتحدة الأمريكيَّة في عام 2006م سمحت ولايتان من الولايات الإحدى والخمسين بالزواج المثلي، وتوحيد الذمة الضريبيَّة للمثليين، أمَّا اليوم فقد أصبحت هذه الجريمة فعلًا شرعيًّا في ستة عشر ولاية، وقد لا يمض العام القادم إلا وتعم هذه الجريمة جميع الولايات، وذلك يعني أنَّ انهيارًا على مستوى البشريَّة سوف يحدث، وكنت في أحد المؤتمرات في مدينة نيويورك أتحدث عما يمكن للإسلام أن يقدمه للمجتمع الأمريكي، وذكرت أنَّ الإسلام يمكن أن يكون وسيلة للحد من انتشار كثير من الجرائم في الولايات المتحدة، ومنها هذه الجريمة، التي أوضح لنا القرآن الكريم مدى خطورتها، ونهى عنها، ونفَّر منها، وأوجد مناعة لدينا من السقوط فيها، وصار لدينا حاجز نفسي نحن المسلمين يحول بيننا وبين قبولها بأي حال من الأحوال، فانبرى لي أحد الخبثاء من أبناء العم إسحاق كما يزعمون ليقول: “ألم تسمع بمسجد الفاتحة في واشنطن، إنَّه مسجد خاص للمسلمين من هؤلاء، وإمامهم لوطي أيضًا، ويدعي أنَّه من تلامذتك؟”. وبذلك استطاع إسكاتي، فاسترجعت، واستغفرت الله تعالى.
وحين عدت إلى واشنطن ذهبت إلى الجامعة الصغيرة (The Graduate School of Islamic and Social Sciences (GSISS) فسألت طلابي عن جامع الفاتحة، وإذا كانوا يعرفون عنه شيئًا، وإذا برجل ضخم الجثة من جذور أفريقيَّة ينهض ويقول: إن اسمه “داعي” وأنَّه إمام هذا المسجد، فأسقط في يدي ودهشت، وعرضت الأمر على مجلس الأساتذة، حيث إنَّني أعرف أنَّ القانون الأمريكي يعاقب بأقصى العقوبات والغرامات الماليَّة على من يقوم بممارسة التفرقة والتمييز بين عناصر المجتمع، فنحن لا نملك الحق في فصله، أو اتخاذ أي إجراء ضده، لئلا يأخذنا إلى المحاكم بتهمة ممارسة التمييز العنصري ضد الشواذ، وجاءني بعد يومين بكل بجاحه ليقول لي: إنَّ هناك محطة تلفزيونيَّة له عليها دالة ونفوذ تريد أن تجري مقابلة معي عن رأي الإسلام في الشذوذ الجنسي، وما إذا كانت الشريعة الإسلاميَّة تسمح به أو لا تسمح، خاصَّة بعد أن قرر كثير من الأطباء أنَّ الشذوذ أقصى ما يمكن أن يقال فيه بأنَّه: حالة مرضيَّة وراثيَّة، لا يد للشواذ فيها أنفسهم، وأنَّه لا ينبغي أن يعاقبوا؛ فرحبت بإجراء المقابلة.
أخذت المقابلة حوالي ساعة، وكان الذي يصور التصوير التلفزيوني والذي يوجه الأسئلة وشهود ذلك اللقاء كلهم من هذه الفصيلة الشاذة، وفي مقدمتهم الشيخ داعي، وكنت صريحًا غاية الصراحة كعادتي، فبينت أنَّها جريمة وأنَّ الأطباء الذين زعموا أنَّها مرض وراثي لابد أن يكونوا من هذه الفصيلة، ويريدون الدفاع عن هذا الفعل، وأنَّه لو عوقب هؤلاء وفقًا لما شرعه الله (جل شأنه) لما انتشرت هذه الجريمة، ولما بلغت ما بلغته، وأكد لي محاوري بأنَّ هؤلاء يقيمون الصلاة، ولهم مسجد الفاتحة، وأشار إلى صاحبنا الشيخ داعي بأنَّه إمام هذه المجموعة يؤمهم في الصلاة؛ لم يغير ذلك من موقفي، وقلت: هذه جريمة أخلاقيَّة مدمرة للأسرة، مدمرة للمجتمع، محطمة للحضارة، تستحق أقصى العقوبات، وليس لأحد أن يتساهل فيها، أو ينظر إليها نظرة استخفاف، ولابد من مقاومتها ومقاومة أصحابها، وإذا اعترف هؤلاء بأنَّهم مرضى فلابد أن يخضعوا لعلاج نفسي وعضوي ينقذهم من هذه الممارسات الإجراميَّة، وأنَّ وجود مساجد باسمهم وكنائس وبيع لا يجعل من جريمتهم هذه جريمة مقبولة أو مرضية بأي حال من الأحوال.
وانتهت المقابلة، وطلبت منهم أن يعطوني شريطًا أو نسخة فقالوا: بعد المونتاج نرسل لك بنسخة إلى آخره، ثم فوجئت بعد أسبوعين بالمحكمة تدعوني إلى المثول أمامها بتهمة التحريض ضد المثليين، وارتكاب جريمة (التفرقة العنصريَّة)، فأرسلت بالمحامي للدفاع عني وأخذت الدعوى حوالي سنتين، ولم تنتهي إلا بعد استنزاف وقتًا ومالًا، وأمَّا شيخ اللوطين الجدد الشيخ داعي فقد رسَّبته في جميع المواد التي أدرسها، ومعظم الأساتذة حذو حذوي، فلم يجد سبيلًا إلا إلى الاستقالة، وترك الدراسة لدينا، وعند الرجوع إلى ملفه وجدت هيئتين أخريين تحملان أسماء موهمة قامتا بتزكيته؛ ولذلك قبلته هيئة التسجيل لدينا، فصار من طلابنا رغم أنوفنا، وكثيرًا ما كان يحتج بما تعلمه معنا في دروسه ومحاضراته، ويبدي اعتزازًا خاصًّا بتتلمذه علينا وعلى الأساتذة العاملين معنا، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
إنَّ انتشار مثل هذه الجريمة في العالم الإسلامي يعتبر في نظري من أهم أسباب التطرف والإرهاب وظهور التشدد والعنف، فالناس حين ترى أنَّ مثل هؤلاء يسرحون ويمرحون، وأنَّ برامج التعليم والإعلام لم تستطع توعية الناس ووقاية أبنائها من السقوط في هذه الجرائم، وفي الوقت نفسه تجد أنَّ مؤسسات القضاء تتعامل معهم بمنتهى الليونة، ويعتبر بعضها أنَّ الأمر لا يعد أن يكون جنحة لا ترقى إلى مستوى الجريمة، ففي هذه الحالة يندفع الآخرون نحو العنف، والتطرف، والغلو، ويشعرون بأنَّهم مهددون في دينهم وأسرهم وأخلاق أبنائهم وبناتهم، ومستقبل بلدانهم وحضارتهم، فالجريمة مركبة، وخطيرة، وتقتضي أن يتنادى العقلاء من علماء الشريعة والفقهاء والقانونيين والقضاء وعلماء الاجتماع والنفس والتربية والسياسة على احتوائها، وتجفيف منابعها، والوقوف بوجه أهلها، وإعادة تربية الأجيال القادمة ببرامج تعيد إليها المناعة وتحميها من الإصابة بهذا الـﭭيرس القاتل قبل فوات الأوان، وقبل أن يشتد غضب الله (جل شأنه) على الناس، فيشمل الإنسان الحيوان والنبات والشجر والحجر. فاتقوا الله يا عباد الله، ولتجتمع كلمتنا على وقاية أنفسنا وأهلينا من نار وقودها الناس والحجارة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (العنكبوت:28-35).