أ.د/ طه جابر العلواني
في أول هذا القرن الهجري، وفي غرة محرم من سنة 1400ھ، قام جهيمان العتيبي ومجموعة من الشباب معه باحتلال الحرم المكي، وسيطروا عليه، وأغلقوا أبوابه، وجاؤوا بواحد من شبابهم، وقالوا: إنَّه المهدي المنتظر. واستدلوا بأحاديث تبلغ ثلاثين حديثًا أو تزيد على صحة ما ذهبوا إليه، والأحاديث هذه ما تزال موجودة منها في الصحاح، ومنها في غيرها، وكادت تشكِّل تهديدًا خطيرًا للمملكة العربيَّة السعوديَّة خاصَّة، وللبلدان العربيَّة والمسلمة عامَّة.
وجهيمان العتيبي كان قد نشر قبل ذلك مجموعة من الرسائل يتحدث فيها عن هذه الأمور، وجمع حوله لفيفًا من الشباب الذين ينتمون إلى قبائل: “حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وثنا ونا” وما إليها مما أخرجه الألباني وغيره، وقُدم على كتاب الله، وفُضِّل عليه، واعتبر حَكَمَا عليه تحت شعار: “السنَّة قاضية على الكتاب”، فإذا وافقت الآية الحديث أمكنها أن تنجو بنفسها، وإذا عارضت أحدًا من قبائل: “حدثنا وأخبرنا ونا وثنا” فإنَّها يحكم عليها بالنسخ أو التخصيص أو التقييد، أو أي شي، وقبائل: “حدثنا وأنبأنا وأخبرنا” قبائل كثيرة ومنتشرة، ولو أنَّ المسلمين كان يقينهم بالقرآن كاملًا ولم يُحمل القرآن مثل ما حمله سابقوهم: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (الجمعة:5)، ولم يفهموه بطرائق أصحاب الفقه البقري، لما كان لمثل هذه الدعوات أن تنتشر.
لقد ظل جهيمان ومن معه يسيطرون على الحرم المكي لما يزيد عن أسبوعين، واقتحم بيت الله الحرام بطريقة يعرفها الجميع؛ لكي يقبض على العتيبي ومرشحه المهدي. وقد ظننا أنَّ المملكة العربيَّة السعوديَّة وقد رأت ما حدث سوف تعيد النظر بكل ما يدرَّس عن الإسلام والقرآن والسنَّة والفقه وأصول الفقه والتفسير والحديث في جامعاتها وكليَّاتها ومعاهدها ومدارسها الابتدائيَّة وغيرها -ودعوناهم إلى ذلك، وكتبنا المذكرات تلو المذكرات- وأنَّها سوف تغيِّر تمامًا في فلسفة التعليم، ومفرداته، وتفاصيله، وتعيد الأمَّة إلى القرآن المجيد، فما صدَّق عليه القرآن وهيمن فهو على العين والرأس، وما لم يكن له في القرآن أصل فلا أصل له، وأن يتعلم الناس أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن يأتي بما يناقض كتاب الله، فقد نزل الوحي على قلبه، وأنطقه الله به، فلم يعد ينطق بغير الوحي، ولا مثل للوحي ولا ند له، ولا قسيم له، وسنَّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنَّما هي تطبيقات وتعليم لمنهج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في التعامل مع القرآن، وأنَّ الرسول (صلوات الله وسلامه عليه) قد وعظ ونصح وذكَّر وأنذر وبشر، وجادل وباهل، وكل ذلك إنَّما يأتي في إطار تعليم الناس الكتاب، وتعليمهم منهج تلاوته وقراءته والعمل به.
وقد لفتنا أنظار القائمين على جامعات المملكة خاصَّة الإسلاميَّة منها بما ينتظر هذا البلد وغيره، إذا استمرت الجامعات الإسلاميَّة لا تقدم إلا هذا النوع من التراث، دون تصديق بالكتاب عليه، ولا بتعليم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ ولذلك بعد ست وثلاثين سنة أو الأربعين نجد اليوم من يطالب بفك الارتباط بين المسلمين والقرآن نفسه، وإدراج القرآن ذاته ضمن منابع فكر الإرهاب، واختيار آيات معينة مثل الآية تسع وعشرين من سورة التوبة ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة:29)، وسائر آيات القتال ضمن أساليب الدعوة إلى الإرهاب، ومن يدري، فقد يأتي يوم قريب نُطَالَب فيه بأن لا نقرأ القرآن أبدًا؛ لأنَّه يحرض على القتال، ويوجد التعصب، ويسمي الكافرين كافرين، ويسمى المنافقين منافقين، ويسمي ويسمي.
فيا عباد الله: اتقوا الله في أنفسكم، وفي دينكم، وفي أجيالكم، وفي وحدة أمتكم، فإنَّ الأمر جد خطير، إنَّ هؤلاء الذين يطالبوننا بنبذ التراث دون تمييز، ويدرجون القرآن الكريم في ذلك التراث، ويصنفونه بأنَّه منبع من منابع الفكر الإرهابي، إنَّما يريدون بذلك أن يباعدوا بينكم وبين القرآن، وبينكم وبين دينكم، ويردوكم عن دينكم إن استطاعوا.
إنَّني لم أسمع أحدًا من اللائكيين العرب يقول للغربيين وللنصارى ولليهود: إنَّ العهدين القديم والجديد مترعان بالتحريض على الإرهاب، الإرهاب الفعلي لا المتخيل، لكن هؤلاء لا يقرؤون، إنَّ التوراة تقول: “إذا مررت بقواتك على مخالفيك وألقي عليكم حجر من أيَّة مدينة فارجع إلى البلدة التي أطلق منها الحجر واقتل مقاتلتها، واسبي ذراريها، واستحي نساءها، واهدمها ولا تبقي حجر على حجر”.
إنَّهم يشاهدون صباح مساء ما تفعله القوات الإسرائيليَّة مع الأطفال الذين يلقون بعض الأحجار على مدرعات بوليسهم، فيهدمون بيوت أولئك ويحاصرون القرى ويقتلعون الزيتون، ويغورون الآبار، ويجيعون الأطفال، ويمنعون عنهم الدواء، وما قصة غزة عنكم ببعيد، ومع ذلك لم يجترئ أحد من هؤلاء أن يقول: إنَّ في الديانة اليهوديَّة إرهابًا، وفي العهد القديم دعوة للإرهاب.
أمَّا إذا كان الأمر مع المسلمين فمع كل ما فعلوه بهم والتدمير الذي ألحقوه، والمؤامرات التي حاكوها، والأموال التي نهبوها، مع ذلك فإنَّهم يصنفون المسلمين بالإرهاب والإرهابين، ويضيقون عليهم، ويبتزونهم بذلك، ويسلطون بعضهم على بعض ليدمر بعضهم بعضًا، فأين هو الوعي الذي يتحدثون عنه؟ وأين هي حقوق الإنسان؟.
لا شك أنَّ التراث الذي يدرَّس في جامعاتنا ومدارسنا كله في حاجة إلى هيمنة القرآن وتصديقه، وكله لابد أن يراجع في ضوء مقاصد القرآن، وما لم يشهد القرآن لشيء سواء أكان أصول فقه أو فقه أو حديثًا أو تفسيرًا فلابد من التنبه له، وإبعاده عن التأثير في ثقافتنا، وجعله خاصًّا بدوائر المثقفين المتخصصين، ولعل هذه الهجمات المتكررة تدفع إخواننا وزملاءنا وأبناءنا من طلبة العلوم الشرعيَّة إلى العمل على دراسة علم المراجعات الذي وضعنا لبناته الأولى، والعناية به، وتنقية تراثنا من كل ما لا يشهد القرآن له، ولا يستطيع المرور من بين منهجه، وإلا فإنَّ هذه الهجمات الشرسة صارت تتطاول إلى القرآن، ونستطيع أن نقول بملء الفم: إلا القرآن، إلا القرآن، إلا القرآن.
ألا هل بلغت اللهم فاشهد.