أ.د/ طه جابر العلواني.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله، نستغفره، ونستعينه، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على خير خلق الله محمد عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله (صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم الدين).
ثم أمَّا بعد:
أعلم يا خادم الحرمين أنَّك تتلقى في كل يوم مئات الرسائل، بل آلافها في بعض الأيام، كما تتراكم على مكتبك التقارير التي تأتيك من كل صوب وحدب، من سفاراتك ومن أجهزة الأمن والدولة لديك، وأعلم أنَّني رجل تربطني بالحرمين الشريفين أربطة تتفوق على فلسفة الجنسيَّة والتابعيَّة، وما إلى ذلك؛ ولذلك فاسمح لي أن أتجرأ في مخاطبتك بهذه الطريقة، فقد خدمت في المملكة وفي قطاع التعليم الديني في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، إحدى عشرة سنة، علَّمت فيها وتعلمت، وعرفت من أبناء بلدكم الكثير، طلابًا تخرجوا بإشرافي، ثم صاروا زملاء لي، وأساتذة وشيوخًا، وأعلم أنَّ الله (تبارك وتعالى) قد من على المملكة شعبًا وحكومة بنعم لا تحصى، وأنَّ الحكومة قد حرصت على أن تعلِّم أبناء البلاد وترسل بهم بالآلاف إلى جامعات أمريكا وأوروبا، ومنذ سبعينيَّات القرن الماضي إلى يومنا هذا نستطيع أن نقول: إنَّ أبناءكم الذين تخرجوا من أمريكا وأوروبا واليابان واستراليا وكندا قد بلغوا الملايين.
ثبت كثيرون منهم على الإسلام، وتغيَّر البعض، واجتالتهم الشياطين، ليكونوا خصومًا لدينهم، وأعداء يخفون ما لا يبدون، ويبدون ويظهرون ما لا يؤمنون به، ويتمرغون في نعيم حرم منه جيرانهم وإخوانهم، وربما أبناء نفس القبائل التي ينتمون إليها في بلدان مجاورة للمملكة.
لم تقف هيئة كبار العلماء ولا العلماء في بلدكم ضد تلك السياسات -سياسات الابتعاث، بل قامت باحتوائها، وأسست جامعة الإمام في حينها مركزًا لتهيئة المبتعثين ليكونوا مبتعثين للمملكة بكل ما تمثِّل، وليحصنوا ضد ما سيتعرضون له من محاولات حرفهم عن دينهم، وإيجاد قطيعة بينهم وبين تاريخهم وأمتهم ودولتهم، ولو بحثنا في الدنيا كلها اليوم لنجد قلبًا طيبًا طاهرًا وعقلًا ذكيًّا وإنسانًا ذا غيرة صادقة على آل سعود ونجد والحجاز وسائر أطراف المملكة السعوديَّة والأمَّة لا نجد مثل عبد العزيز بن باز، طيب الله ثراه، وتقبله في صالح عباده.
لقد أسسنا المعهد العالمي للفكر الإسلامي في رحاب ذلك البلد، وأول من استشرناه أهل العلم فيه، ولكي يكون عملنا في النور أبلغنا السلطات المسؤولة وفي مقدمتها ولي عهدكم السابق ووزير الداخليَّة نايف بن عبد العزيز، وأخيه أحمد بن عبد العزيز، كان المعهد يقوم على فكر تجديدي، تابع خطوات حركات التجديد منذ ابن تيمية وابن القيم ومن قبلهما صلاح الدين ونور الدين زنكي، وأصحاب المدارس التي أوجدت رجالًا حرروا القدس، وأخرجوا الصليبيين، وردوا كيد الفرنجة في نحورهم بتجديد معرفي منهجي، قائم على نفي كل ما ألحقه الغالون في فقهنا، وعلوم عقيدتنا، وتاريخنا، وكل ما انتحله المبطلون، ودرج عليه الجاهلون. فكر يقوم على تنقية التراث، من كل ما لحق به في عهود الأمويين والعباسيين وصراعاتهم على السلطة ومقاتل الطالبيين، ومصارع العلويين، وما إلى ذلك من صفحات دامية، واستبدالها بآيات الكتاب المبين، لتصدق وتهيمن على ذلك التراث المصاب وتعيده إلى حالة الصدق، هدًا، ونورًا، وشفاءً لما في الصدور، ورحمة، وهو في الوقت ذاته عمى على الذين لا يؤمنون به ولا يتلونه حق تلاوته.
ومراجعة التراث الغربي كذلك، وبيان ما ألحقته الكنيسة والإسرائيليَّات القديمة والحديثة به، وتنقيته من ذلك، فإنَّه إذا كانت لبلاد العرب والمسلمين أزماتهم فإنَّ لأوروبا وأمريكا أزماتها أيضًا، وقد تختلف أشكال الأزمات، لكن حقائقها واحدة، فالأزمة أزمة مهما كان لونها، والمصاب بمرض السرطان -أعاذكم الله- لا يختلف كثيرًا عن المصاب بـﭭيروس الكبد ونحوه، فالأمراض أمراض، مهما اختلفت درجاتها، وأدويتها، ثم العمل على إعادة الارتباط بين هذه الأمَّة وكتابها العزيز، مصدر هدايتها، ونورها ووحدتها، وقوتها، ومتانتها، وخيريَّتها، ووسطيَّتها، لا يزيغ عنه إلا هالك، ولا يستهين بدوره إلا تالف، والتصديق بذلك الكتاب الكريم وبآياته المبينات على تراث الإنسانيَّة كلها، تراث المسلمين وتراث غيرهم، وبذلك يظهر الدين على الدين كله، وتتمكن الإنسانيَّة من التخلُّص من كثير من أمراضها، ويمكن أن يدخل الناس في السلم كافَّة، وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما هي إلا تطبيقات لكتاب الله، تبين لنا منهج تلاوة الكتاب والعمل به، وتطبيقه، وتقدم لنا منهجيَّة الجمع بين العلم والعمل، وبعد ذلك يأتي دور التعليم، وتحويل هذه الأفكار إلى مقررات وكتب دراسية، تستطيع أن تصنع عقولًا سليمة، وقلوبًا ذكية، وأجيالًا معاصرة تستوعب الأصالة والمعاصرة، بحيث نعيش عصرنا من غير أن ندمر ماضينا أو مستقبلنا، ومن غير أن ندمر شبكة العلاقات التي أقامها القرآن المجيد، والرسول الكريم؛ لتشكل مجتمعًا آمنًا هاديًا مهتديًا سليمًا ومسالمـًا.
تأسس المعهد على هذا الفكر وهذه الفلسفة، وشارك فيه رجال علم وتعليم من أبناء المملكة مشهود لهم، وما يزال بعضهم أحياء يستطيعون أن يقدموا خبراتهم ويؤثروا في المملكة بها، بدلًا من أن تصب المياه العذبة التي لديهم في بحار مالحة خارج مملكتهم، وبلاد الحرمين.
فما الذي حدث؟
أوغر أولئك الذين اجتالتهم الشياطين في الغرب من أبناء جلدتنا صدور المسؤولين في المملكة السعوديَّة وغيرها، وبدلًا من أن تحتضن المملكة هذا الفكر وهذا المعهد وتعيد تأسيس جامعاتها وفقًا لفلسفته وأفكاره تنكرت له، وحاصرته، بل وأصدرت قرارات رسميَّة بعدم جواز التعاون معه ماديًا ومعنويًا؛ لأنَّ تلك الجهات المغرضة الذين أخبرنا الله من أنبائهم لا تريد لأمتنا صلاحًا ولا إصلاحًا، ولو كانوا فينا ما زادونا إلا خبالًا: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ (التوبة:47)، يرضوننا بأفواههم وتأبى قلوبهم، هؤلاء عادوا هذه المؤسسة الصغيرة، وحاصروها، وصوروها وصوروا القائمين عليها على أنَّهم أعداء لدولتكم، ولشعبكم، وشنوا على هذه المؤسسة الصغيرة الناشئة حربًا ضروس، يعرف أبناءكم في وزارة الداخليَّة وفي سفارتكم في واشنطن كثيرًا من جوانبها.
يا خادم الحرمين، إنَّ أوضاعنا نحن المسلمون جميعًا تحتاج إلى تجديد، وتحتاج إلى إصلاح، وتفتقر إلى التغيير، ولكن بأيدينا لا بأيدي غيرنا، بأيدي المؤمنين لا بأيدي الملحدين واللائكيين؛ ولذلك فإنَّني أتحدى أصحاب تلك الأصوات أن يقدموا لكم برنامجًا لإصلاح أحوال البلاد والعباد، والحيلولة دون داعش وماعش وداحس والغبراء أن تخترق بلادكم أو أي بلد من بلدان المسلمين.
لقد سبق أن قدمت إلى أخيكم نايف وأخيكم أحمد قبل ست وثلاثين سنة مذكرة مستفيضة دعوت فيها إلى إصلاح التعليم والإعلام في بلدكم، فما وجدت آذانًا صاغية، بل كانت ردود أفعال أولئك المنافقين أنَّهم كادوا يسطون بي، لولا لطف الله، وحكمة الأميرين نايف وأحمد آنذاك، وأنا الآن على مشارف الثمانين وأقول لكم بكل وضوح وثقة بالله وثقة بالنفس: أنَّني وزملائي قادرون بإذن الله (تعالى) على وضع برنامج إصلاحي لمناهج التعليم والسياسات الإعلاميَّة، يصلح لكم ولسائر البلدان العربيَّة التي يهددها الفكر المتطرف والداعشي، ويهدد أمنها وسلامتها، واستقرارها، وقد يجعل منها لقمة سائغة للتفتت والسقوط في أحضان إسرائيل.
ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.