د.طه جابر العلواني
«الصِّحافة» بكسر الصاد أُخذت من «صحيفة»، وهي الصفحة من «صفحة الوجه» و«صفحة الورقة»، وقد ورد في القرآن قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ (الأعلى:18-19)، والمراد بها الصحف التي أنزلها الله على رسله، و«الصِّحافة» مهنة مَنْ يجمع الأخبار والآراء والمقولات وينشرها في صحف أو صحائف يوميَّة أو أسبوعيَّة مطبوعة تشتمل على ما يهم الناس من أخبار السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، وقد أطلق الطهطاوي على الجريدة الرسميَّة «الوقائع المصريَّة».
و«الصِّحافة» قديمة جدًّا، والنقوش التي عرفتها الحضارات القديمة -السومريَّة والفرعونيَّة والبابليَّة- كانت صحف تلك العصور، ولعلَّ بعض أوراق البردي المصريَّة كانت تُمثِّل الصِّحافة القديمة، وقد تتعدَّد خطوط ولغات الصحيفة الواحدة كما في «حجر رشيد».
والصحافة الحديثة اكتسبت منذ القرن السادس عشر في أوروبا أهمية خاصة، تعزَّزت بعد نشوء الديمقراطيات الغربيَّة، فصارت إحدى مؤسسات المجتمع المدني أو الأهلي، وأخذت تؤدي دورًا غاية في الأهمية في صناعة الرأي العام, والقيام بنوع من الرقابة التي تحفظ التوازن بين السلطات الثلاثة؛ التشريعيَّة والقضائيَّة والتنفيذيَّة، بحيث تؤدي السلطات الثلاثة أدوارها في تناغم وانسجام يحقق مصالح الأمَّة أو الشعب, فإن بَغَتْ إحدى السلطات على الأخرى وقفت «الصِّحافة» -بوصفها سلطة معنويَّة- بوجه الجهة التي بَغَتْ أو جاوزت حدَّ الاعتدال؛ لإعادتها إلى وضع الانسجام مع السلطات الأخرى؛ لأنَّ مصلحة الأمَّة لا تتحقق إلاّ بذلك التناغم والانسجام والتعاون الإيجابيِّ بينها, ورقابة «الرأي العام» وأدواته, ومنها الصحافة النـزيهة الناطقة باسم «الرأي العام»، والمشاركة في صناعته في الوقت نفسه، فالصحافة -إذن- وسيلة هامَّة لا يستغني عنها مجتمع معاصر؛ ولذلك تنوعت إلى يوميَّة وأسبوعيَّة وشهريَّة وثقافيَّة وإخباريَّة وفنيَّة وعلميَّة، والصحافة -وإن لم تكن من المؤسسات التي أنشأتها حاجة إسلاميَّة مباشرة- لكن الإسلام يقدم لنا العديد من الضوابط التي يمكن أن تجعل صحافة الأمَّة المسلمة والمجتمعات المسلمة صحافة متميزة بالتزامها بقواعد أخلاقيَّة تحقق مصالح المجتمعات المسلمة.
ولاشك أن الصحفيِّين أنفسهم قد وضعوا مجموعة من الضوابط والقواعد الهامَّة لتحقيق تلك الأهداف النبيلة، ويمكن أن يضاف إليها ما يلي:
- عدم الجهر بالسوء لما لذلك من آثار تربويَّة سلبيَّة: ﴿لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً﴾ (النساء:148).
- تحرِّي بناء رأي عام يعرف كيف يميِّز بين المعروف فيؤيده, والمنكر فيشجبه: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ (النساء:114).
- تحرِّي الدقة والصدق في الأخبار، ومعرفة العبرة والدرس الذي يقدمه نشر الخبر, وتحديد الفائدة من ذلك والعناية بإسناد الأخبار إلى مصادرها وتحليل آثارها وأبعادها.
- ملاحظة مقاصد الشريعة بمراتبها الثلاث: الضروريَّات والحاجيَّات والتحسينيَّات؛ فلاشك أنَّ «الضروريَّات» ينبغي أن تكون حاضرة -باستمرار- لدى الرأي العام, وأن يكون على وعي دائم بضرورة المحافظة عليها, وعدم التفريط بها وصيانتها. و«الحاجيَّات» كذلك، تحتاج من الصحافة إلى وعي خاص يحميها من الضياع، ويحدِّد لفصائل الأمَّة كلِّها أدوارها في حفظها وحمايتها. وكذلك «التحسينيَّات» أو «الكماليَّات» تحتاج الصحافة إلى أن توليها عنايتها واهتمامها؛ لتجعل من «الفنون» -مثلا- على اختلافها وسائل لترقية الذوق العام وبناء الحسِّ الفنيِّ الرفيع.
وإذا أخطأ الصحفيُّ -رغم سائر الاحتياطات- فمجالات التصحيح والتعديل رحبة واسعة, ولدينا في أخطاء الرواة والشهود تراث ضخم يمكن الاستفادة بما فيه من دروس لإرساء تقاليد تعود على أمتنا وعلى البشريَّة بالخير الكثير… والله أعلم.