د.طه جابر العلواني
بادئ ذي بدء أود أن أؤكد أنَّنا إذا أردنا صياغة خطاب ديني معاصر سديد، نحتاج أن نبدأ أولاً بطرح مجموعة من الأسئلة المهمة على أنفسنا قبل أن ندخل إلى مخبر صناعة الخطاب الديني. ولعلَّ من أهم هذه الأسئلة التي لا بد من إثارتها تمهيدًا لمحاولة صياغة الخطاب الديني المنشود:
1_ ما هي الحوارات الداخلية التي تدور في مجتمعاتنا العربية -في مصر وغيرها- هذه الأيام؟
ولعلَّ لنا أن نقول للإجابة عن هذا السؤال: إنَّنا حين نقوم بعمليات رصد لما تقدمه أهم أجهزة الإعلام العربية منها والإسلامية؛ من برامج متلفزة أو مذاعة, أو صحف يومية, ومجلات أسبوعية وشهرية, وخطب جمعة في بعض الحواضر الكبري, ودروس وحلقات عمل وندوات, وبعض مجالس تداول الرأي المفتوح التي يُطلق إخواننا الخليجيون عليها اسم الديوانيات, فإنَّ ذلك الرصد (بعد تجاوز وتجاهل فضائيات ومحطات التجهيل وتعليم العبث)، فسوف نجد أن سائر الحوارات التي تدور في مجتمعاتنا ترتبط بهمٍّ عربيٍّ كبير ومشترك تتفرع عنه مجموعة من الهموم الفرعية, وهذا الهم الكبير المشترك محوره الأساسي: ماذا يريد الغرب منا؟ وما طبيعة علاقاتنا -أنظمة وشعوبًا- به بكل فروعه الأمريكية والأوروبية ومجالاتها الحيوية؟ وما مستقبل بلداننا وشعوبنا وطوائفنا ومذاهبنا وأحزابنا وأقطارنا وأجيالنا ومثقفينا في ضوء هذه العلاقة الغامضة المتذبذبة المتغيرة، التي ما إن يمسك المفكرون والمحللون بطرف يسير منها, فيظنون أنَّهم قد أدركوا شيئًا، أو حلُّوا رمزًا من رموزها، حتى تبرز لهم أطراف أخرى، دونها بكثير أطراف الأخطبوط وأذرعه العديدة؟!
2ـ وبعض المفكرين والمحللين العرب قد يسمحون لأنفسهم بتوليد سؤال من ذلك المحور الكبير، أو السؤال الكبير، عن الأسباب الحقيقية التي جعلت العلاقة على ذلك المستوى من التذبذب وعدم الاستقرار, حتى مع أولئك الذين برهنوا لعقود طويلة على صداقة طويلة للغرب, ربما تحمَّلوا في سبيل المحافظة عليها جفاء الأخ, وغضب الابن، وابتعاد الصديق عنهم.
أهي الذاكرة التاريخية للغرب, وهي ذاكرة ماتزال متـرعة بأدبيات وذكريات وتراث الحروب الصليبية، التي تعبِّر عنها أدبيات وقصص وروايات وأفلام لا نهاية لها؟
أهي العلاقة الوثيقة بين العهدين القديم والجديد، التي كانت من أهم الجسور التي امتطتها الصهيونية للربط بين التراثين اليهودي والنصراني, ولو في بعض كنائسه, بحيث لم يعد يُرضي الغربي من العربي شيء لا يحظى برضا قلبي ومصادقة صهيونية تامة؟! أهي المسألة الشرقية القديمة التي لا تستطيع أوروبا نسيانها, خاصة يوم دخلت الجيوش العثمانية فيينا في وسط أوروبا، فجعلت أوروبا كلها في حالة خوف ورعب لم ينتهِ حتى وتركيا تتقدم بالطلب تلو الآخر للانضمام إلى المجموعة الأوروبية وبإلحاح شديد؟!
أهي المعادلة الصعبة التي يطالب الغرب العرب والمسلمين باحترامها, وعدم فعل أي شيء يمكن أن يُغيِّر منها ولو على مستوى الأماني والنوايا القلبية أو الأحلام؟ تلك المعادلة التي تتلخص بأمن إسرائيل+مصالح الغرب كله في المنطقة+ دعم ما يوضع من استراتيجيات للهيمنة علي العالم+تخليص العقلية العربية والإسلامية وتنقيتها من كل ما يمكن أن يحول بين العربي والمسلم, وقبول قيم الغرب, سواء انتمى ذلك إلى تراث ديني, أو هوية قومية, أو انتماء إقليمي نزل به وحي أو أفرزته فلسفات بشرية، بما في ذلك بعض الفلسفات الغربية التي قد يتبناها بعض مثقفينا بدوافع متعددة!!
ونتيجة لكثرة التساؤلات وهيمنة عوامل الحيرة والقلق لدى الغالبية العظمى من النخب والمتعلمين العرب والمسلمين، فقد بدأت بعض المشاعر السلبية تستبد بهم, وصار هناك رواج لمقولات قد تكون لها آثار سلبية علي العلاقات في الحاضر وفي المستقبل, ترى تلك المقولات أنَّ الغرب -عمومًا- وأمريكا -على وجه الخصوص- تستثمر بتعمد وسابق إصرار أو بخطة مسبقة, أو بتواطؤ استراتيجي -كما يروِّج البعض- ظواهر التطرف المحدودة، التي لا يخلو منها أيُّ جزء من العالم اليوم, وهي ظواهر شجبها العالمان، العربي والإسلامي، قيادات ونظمًا ونخبًا وشعوبًا, كما شجبتها جميع المؤسسات الدينية الكبرى في العالم العربي، مثل: الأزهر وغيره, كما شجبتها الأقليات المسلمة في الغرب, ومع ذلك فإنَّ تلك المواقف الشاجبة لم تحظ بتقدير مناسب من أمريكا والغرب, بل قوبلت بمحاولات إضعاف المنطقة, ومحاولة بسط السيطرة الغربية الشمولية عليها وفقًا لمعايير الغرب الذاتية, مع تجاهل خصائص الشخصية العربيَّة والإسلاميَّة, وكأنَّ هناك قرارًا بفرض عقاب جماعي لا سند له من شرعية دولية, أو اتجاهًا حضاريًّا إنسانيًّا، اللهم إلا منطق القهر الروماني القديم!!
3ـ هناك كثير من التساؤلات المثارة حول سياسات مَنْ يُعرفون بـالصقور الإسرائيليين، والتأييد غير المشروط لتلك السياسات المتسمة بالتجبر والغطرسة, والمهينة للعرب الفلسطينيين في الداخل وجيران إسرائيل من حولها, وقد أحرجت تلك السياسات -والتأييد الغربي الأمريكي خاصة لها- سائر الأنظمة العربية والمسلمة الصديقة للغرب, وزاد ذلك الإحراج في الفجوة بينها وبين شعوبها, وأفقدتها الضغوط القدرة على ممارسة أدوار تحفظ لها ماء الوجه أمام شعوبها, وتمكنها من ضبط الأوضاع سلميًّا في المنطقة, وإيقاف عجلة الانسياق وراء الآراء والاتجاهات المتطرفة التي صارت تجد رواجًا كبيرًا في مثل هذه البيئة.
4ـ ثم جاءت قضية العراق وتفجير البلد بأهله, بعد ممارسات مذلّة للشعب العراقي من خلال حصار طويل، وغارات جويَّة لم تنقطع طيلة ثلاثة عشر عامًا، انتهت بتمزيق الدولة وتفريق كلمة الشعب، وإدخاله في دوامة من الاضطرابات والعنف لا تعرف لها نهاية, ومهما قالت إدارة الرئيس بوش ورئيس الوزراء البريطاني السابق بلير عن رغبتهما وحكوماتهما في عدم تقسيم العراق, ومنع تمزيق شعبه, وبناء نظام ديموقراطي فيه, فإنَّه من المعروف أنَّه منذ بدء الحصار -قبل ستة عشر عامًا- قد تمَّ تقسيم العراق من خلال بسط الحماية على الشمال والجنوب, وترك الوسط للنظام يمارس فيه دكتاتوريته كما يشاء حتى سقوط بغداد.
5ـ إن صور أطفال العراق وهم يحتضرون ويموتون في أحضان أمهاتهم بسوء التغذية, وانعدام الأدوية، لم تفارق الذاكرة العراقية ولا العربية بعد, وكذلك صور المرضى العراقيين وهم يفقدون حياتهم على أسرة مستشفيات محطمة, وبين أيدي أطباء عاجزين عن فعل أيِّ شيء,؛ لأنَّهم لم يكونوا يمتلكون حتى حبة الأسبرين, أو جرعة البنسلين أو الأنسولين، أو أيِّ دواء من تلك التي يجدها الإنسان في محال البقالة في الغرب.
6ـ إنَّ المفكرين والمثقفين العرب- ومنهم الإسلاميون المعتدلون الذين لم يفتؤوا ينادون بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان, ويعملون على إقامة مؤسسات لمجتمعات مدنية في بلدانهم- يستغربون ذلك التجاهل الغربي عامة والأمريكي خاصة لهم ولأدوارهم, ولا يكادون يقضون العجب من ذلك, وهم يقاومون اتجاهات التطرف والتعصب والكراهية، ثم لا يجدون أيَّ تشجيع, بل على العكس يواجهون بسياسات غربية كثيرًا ما تؤدي إلى عزلهم عن القواعد العريضة لشعوبهم, وإحباط جهودهم.
هذه الجوانب والتساؤلات المتصلة بها هي التي تتحكم في مجريات الحوارات الداخلية في العالمين العربي والإسلامي، وفي ظل هذه الحوارات تطرح فكرة إعادة صياغة الخطاب الديني, وذلك بعد أن أدت تلك الظروف -التي نبهنا إليها بإيجاز شديد- إلى ردود أفعال دينية وقومية توشك أن تشكِّل رفضًا لكل ما هو آتٍ من الغرب ومن أمريكا خاصة, وقد بدأت اتجاهات تكاد تنادي بتبرئة كل المتهمين بمعاداة الغرب من المسئولية, فضلاً عن الإدانة, واعتبار أمريكا وبريطانيا مسؤولتين عن كل أسباب المعاناة في المنطقة وفي العالم الإسلامي كله.
وبدأت اتجاهات القبول النفسيِّ والعاطفيِّ للتصرفات المعادية لهما بالنمو برغم الإدانة العقلية لتلك الاتجاهات في كثير من الأحيان، فلا غرابة أن نرى المنطقة تعيش حالة غليان قد تتفجر في أيِّ لحظة لا سمح الله ولا قدر.
فكيف تُدار الحوارات الدينية في عالمنا هذا؟ وهل يمكن أن تؤدي إلى إيجاد مقومات إيجابية لصياغة خطاب ديني جديد؟ هذا ما يحتاج إلى تفصيل في مقال آخر.