Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

مُرجِئة العصر ج 1

أ. د/ طه جابر العلواني

لكل زمان مشكلاته وأزماته، كما أنَّ لكل زمان فضائله ومزاياه. وكل ذلك محكوم بتقدير العزيز العليم. وقد شغل المسلمون عبر تاريخهم بمسائل وقضايا تطرح في أزمنة مختلفة، فتشغل أذهان الناس وتثير تساؤلاتهم. في زمن الإمام أبي حنيفة -رضيَ الله تعالى عنه- الذي ولد سنة 70 هـ وتوفي سنة 150 هـ، كانت تلك الفترة محملة بكثير من القضايا والأسئلة، وكان من أهمها مَا عرف بفتنة (الإرجاء)، والذين تبنوا هذه الفكرة وأشاعوها أطلقوا عليهم (المرجئة)، وهي طائفة العقيدة الأساسيَّة عندهم عدم تكفير أي إنسان أيًا كان، ما دام قد اعتنق الإسلام ونطق بالشهادتين، مهما ارتكب من المعاصي، تاركين الفصل في أمره إلى الله (تعالى) وحده؛ لذلك كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وعنه نشأ الاختلاف في مرتكب الكبيرة.

وهذه الفكرة نشأت عن تعظيمهم لشأن الإيمان، واعتبارهم أنَّ الإنسان إذا هداه الله (تعالى) للإيمان ووفقه إليه فإنَّه لا يضره مع الإيمان شيء، وأنَّه سيكون من أهل الجنة. وصارت تلك الفكرة موضعَ جدل كبير ونقاش، وقد رمي كثير من كبار العلماء -الذين لا يسارعون في التكفير ولا يكفرون المفرّط ببعض الفرائض ولا يسارعون إلى ذلك- بأنَّهم مرجئة؛ أي: لا يقولون بتحقيق الوعيد الإلهيّ لمَن آمن به مَا دام لم يشرك بالله شيئًا. واحتدم الجدل في ذلك واشتدّ، وشغل أذهان الكثيرين، وصار هناك في تراثنا قضيَّة عرفت لدى علماء الكلام بقضيَّة فتنة الإرجاء، التي تفرع عنها الكلام في حكم مرتكب الكبيرة: هل يدخل النار وهل يعذب حتمًا وهل يخلد فيها؟ أو أنَّه تحت مشيئة الرحمن إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، وأنَّه يدخل تحت قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة:106)، فهم بذلك خاضعون لمشيئة الله إن شاء عفا وإن شاء عذب؟. وقد جر الجدل في هذه المسألة إلى إثارة العديد من الأسئلة والكثير من المناقشات.

ونقل أنَّ سبب تسميتهم بذلك أنَّ رجل من أهل السنَّة قال لمحاوره: أين تنزل الكفار في الآخرة؟ قال: هم في النار، فقال: أين تنزل المؤمنين؟ قال: المؤمنون على دربين، مؤمن بَرٌ تقي فهو في الجنة، ومؤمن فاجر رديء، فأمره إلى الله إن شاء عذبه بذنوبه وإن شاء غفر له بإيمانه. قال فأين تنزله: قال لا أنزله، ولكن أرجِئ أمره إلى الله (عز وجل) فقال: أنت مرجئ. فتلك العناوين: مرتكب الكبيرة، وخلوده في النار من عدمه، وهل يدخل العمل الصالح في مفهوم الإيمان، أو أنَّ الإيمان شيء والعمل شيء آخر، وتقسيم الناس إلى مرجئة وخوارج ومعتزلة وأهل سنة … إلخ، كل ذلك جرى في إطار الجدال حول تلك المسائل.

وحين تأملت في الصراع بين الإسلاميّين وسواهم في بعض البلدان المسلمة وجدت أنَّه في جانبه الفكريّ يرجع إلى تلك العصور؛ فالليبراليّ يتهم الإسلاميّ بأنَّه يكفره ويحكم عليه بدخول النار، والإسلاميّ يتهم الليبراليّ بأنَّه لا يعمل من خصال البر أو أعمال أهل الإيمان شيئًا، ويرى الإسلام جنسيَّة وانتماء.. وهذا لا يكفي لاعتباره من المسلمين. فالإيمان والعمل الصالح متلازمان، والإيمان يقين في الجَنَان ينطق به اللسان ويطيع الإنسان ربه بالعمل بالأركان واجتناب الكبائر. وكان هناك آداب اختلاف نتمنّى لو استطاع الليبراليون والإسلاميّون استحضارها كما استحضروا تلك المعاني وألبسوها ثيابًا جديدة معاصرة.

وما يجري الآن على الساحة العربيَّة من داعش والقاعدة -ولا ندري أي فريق آخر سيظهر بعد ذلك فقد يظهر لنا داحس والغبراء ثانية- كلها تدور حول تلك المفاهيم، وذلك الجدل العقيم الذي كانت له أفدح الآثار السلبيَّة في تاريخنا وتراثنا، وأحياها من أحياها اليوم لتدمر حاضرنا وتصادر مستقبلنا، وكنا حين نقرأ في كتب الملل والنحل نظن أنَّ جُل تلك الأمور قد انتهى، وصار جزءًا من التاريخ، لكننا نفاجأ بين الحين والآخر بمن يعيد إنتاج تلك الفترات التاريخيَّة بأحداثها ومفاهيمها وأفكارها، ويشغل الناس بها، وذلك يعني أنَّ هناك فراغًا فكريًّا وثقافيًّا هذا الفراغ يجعل الكثيرين يعملون على إشغال أوقات الناس وأوقاتهم بأفكار تراثيَّة، ظننا أنَّها بادت، ونفاجأ حين نراها قد سادت وطرحت من جديد. وهنا يأتي سؤال كبير: أين الفكر المعاصر؟ هل عقمت العقول وصارت عاجزة عن تناول مشكلات العصر والواقع فصارت تهرب إلى التاريخ لتستورد منه المشكلات والأفكار وتظن أنَّها على شيء وليست هي على شيء؟.

فلو أنَّنا عملنا على التفكير بتحديات العصر، ومشكلات الواقع، وقَدَح المفكرين زناد أفكارهم لمواجهة مشكلات العصر؛ لتغيرت الأمور، وقبرت الأفكار الميتة والقاتلة والمميتة، وحسب المسلمون ما عانوه في تاريخهم من أضرار تلك الأفكار الميتة والقاتلة والمميتة، فهل من مدكر؟.

رأي واحد على “مُرجِئة العصر ج 1”

  1. رحم الله شيخنا واستاذنا الدكتور طه.
    كان صاحب بصيرة نافذة في التنبيه لمشكلات العصر.
    وكان كثيرا ما يلفت الانتباه الى قصورنا عنها وانشغالنا بقضايا عفى عنها الزمن.
    وتبقى مشكلتنا جميعا ان اغلب من يشتغل بالعلوم الدينية يبتعد عن معطيات العصر واغلب من يتصدى لمشكلات العصر بعدة العلوم المعاصرة يكون بعيدا عن العلوم الدينية.
    قضية للنقاش؟؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *