Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الحيرة والمخرج

د.طه جابر العلواني

تُحيط بأمتنا أحداثٌ جِسام، نُصبح ونُمسي بين ضغوطها النفسيَّة والحياتيَّة، ويتلفت كلٌّ منَّا يمنةً ويسرةً، يسأل عن أسباب ما يحدث، فلا يكاد يخرج بجواب. فالجواب الشافي يبدو بعيد المنال، لا تحاوله الأذهان إلا وترجع كليلةً حسيرةً، لكنَّ الجواب الشافي في كتاب لله صرَّف الله تعالى فيه للناس من كلِّ مثل، وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً لأنَّه لا يمعن النظر في المثل، ولا يستخلص العبر من التاريخ.

أمَّا كتاب الله الذي يهدي للتي هي أقوم فيقول فيه: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون﴾ (الأنعام:65)، والمتلقي الأول للقرآن الكريم كان إذا قرأ هذه الآية أو قُرئت عليه شعر برعب شديد، وبادر يقول بلهفة المستغيث: «اللهم سلِّم… اللهم سلِّم»، فلم وكيف يلبس الله الناس شيعًا؟ إنَّه يلبسهم شيعًا عندما يحدث الآتي:

أولا: أن يطول عليهم الأمد، فتنقطع صلاتهم بمصدر هدايتهم؛ فينشغلون بما عداه، ويتجاوزونه ويغفلون عنه.

ثانيًا: عند ذلك تقسو القلوب، لانفصالها عن مصدر النور والإشعاع والهداية.

ثالثًا: نتيجة لذلك النسيان أو التناسي لمصدر الهداية تظهر فيهم عوامل العداوة والبغضاء، وتنافر القلوب: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ (المائدة:14)، ولن يُرْفَع ذلك عنهم إلا بعد عودتهم إلى معين الألفة والمودَّة والحبِّ والإخاء، لِتنسلخ القلوب عن تنافرها، وتلين لمعاني الألفة والمحبَّة التي جاء بها الله وأودعها فِطَرَ البشر، وكتابه الخالد.

رابعًا: إذا بعدت الأمَّة عن مصدر هدايتها ومنبع قيمها اضطربت مفاهيمها، وتضاربت أفكارها ومذاهبها ومقالاتها، فتستبدّ بها عوامل الاختلاف، حتى تعود إلى منبع المفاهيم الصحيحة والمعاني السليمة.

تلك بعض الأسباب الحقيقية وراء ما نشاهده من فتن ومآسٍ، بقطع النظر عن تحليلات المحلِّلين، وتفسيرات المؤوِّلين، وتحريفات الغالين والمفرِّطين.

والمتلقي الأول يزيد ما جاء في الآية الكريمة إيضاحًا في قوله محذِّرًا الأمة من بلوغ هذه الحالة:«كيف بكم إذا أضعتم صلاتكم وتركتم جهادكم، قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم، وأشدَّ من ذلك سيكون»، أي إذا لم تنتبهوا مبكرًا وترجعوا إلى الله وتعودوا إلى مصدر هدايتكم، ثم قال: «كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم، وأشد من ذلك سيكون، ثم قال: كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرًا والمنكر معروفًا؟ قالو:ا أو كائن ذلك يا رسول الله! قال: نعم، يقول الله: لأتيحنَّ لهم فتنةً تذر الحليم فيهم حيرانًا»، فالظواهر السلبية وعمليَّات التغيُّر في المفاهيم الثابتة والصحيحة إذا لم يجر تلافيها والتخلص منها عند ظهورها، فإنَّها تتحول إلى ما هو أخطر، وتظل تداعياتها تنتقل من شديد إلى ما هو أشد حتى يشعر عقل الحليم بعجزه عن إعادة تفكيكها وتحليلها واقتراح علاجها، فلا يملك آنذاك أن يقول إلا أنَّها قضية معقَّدة تتضارب فيها المصالح والمفاسد، وتتشابك فيها العلاقات، فلا يستطيع أحدٌ إيجاد مخرج منها.

ولسنا دعاة يأس، لكننا ندعو حلماء الأمة وعقلاءها إلى مغادرة فتنة الحيرة، إلى الحلِّ الهادئ الراشد، ويقدِّم لنا رسول الله -وهو المتلقي الأول- الحلَّ فيما أخرجه الترمذيُّ عن علي بن أبي طالب، أنَّ رسول الله قال يومًا: ” ألا إنَّها ستكون فتنة”، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: “كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، مَنْ تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلَّه الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق من كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا*يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾(الجن:1-2)، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *