Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

حين يختصم المسلمون مع إسلامهم فيجادلونه

أ.د/ طه جابر العلواني

هل يختصم المسلمون مع إسلامهم؟

نعم قد يحدث ذلك، حين يقدم الإسلام لبعض المسلمين بشكل خاطئ، ويجسد الدين أمامهم وكأنَّه بناء مصمت مرفوع على رؤوسهم، كأنَّما نتقه الله (تعالى) وصار يهددهم به: اسمعوا وأطيعوا، فإن لم تفعلوا فسأسقط هذا الجبل الذي هو الدين فوق رؤوسكم، وأقضي عليكم.

وهل يمكن تصوير الدين بهذا الشكل؟

 الجواب: نعم، وفي عصرنا هذا معظم الدعاة خلقوا خصومة بين الإسلام والمسلمين، وجعلوا من الدين جبلًا مرفوعًا فوق رؤوس الناس، يوشك أن يسقط عليهم كما تسقط الجبال أو الصخور بالانهيارات المختلفة، وكما تسقط الصواعق؛ وذلك حينما يعمد الداعية المغرض  أو الجاهل أو المنافق أو المتملق أو المستغل إلى النظر إلى الدين على أنَّه شيء قابل للاستغلال وللاتجار به، وللحصول على المال أو الجاه أو السلطان بوساطته.

حين نستمع إلى كثير من الفضائيَّات ووسائل الإعلام ونطالع بعض الصحف نجد أنَّ هناك معركة حامية الوطيس بين الإسلام والمسلمين، فهناك من يصرخ بأنَّ الإسلام قد ظلم المرأة في النظرة إليها، وهي نظرة دونيَّة، وفي مواريثها من أهلها، وفي حقها في اختيار الحياة التي تناسبها، فانتصروا أيُّها النشامى لها على هذا الدين الذي أوقع عليها كل هذه المظالم.

 وهناك من يصرخ باسم حقوق الإنسان ليقول: إنَّ الشريعة ظلمت الإنسان، ومنعته من حريَّة التدين، فحكمت عليه بالردة إذا غيَّر دينه، وما يتبع الردة من انتهاك لحرماته وإهدار لدمه، وإباحة لسفكه، إلى غير ذلك. ومنهم من يرى في الدين أداة سهلة للاستغلال، وأنَّه حمَّال أوجه، يمكن أن يوجه لك وعليك، معك أو ضدك، وأنَّه ألعوبة بأيدي المتلاعبين، ولقمة سائغة في أفواه الآكلين المتبطلين، إلى آخر تلك القائمة.

فما الذي حدث؟ ولم وصل المسلمون إلى هذا الحضيض أن تنظر فرق مختلفة منهم إلى الدين بتلك النظرة، وأن تدخل معه في كل تلك الخصومات؟ وما هي العوامل التي أدت إلى ذلك، أهي الجهل وسوء الفهم؟ أهي التفسير الخاطئ، والتأويلات المنحرفة؟ أهي الإعراض عن المصادر الأساسيَّة والانشغال بالمصادر الفرعيَّة؟ أهي خروج عن منهج الله (تعالى) واتباع لمنهج الشيطان ﴿وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ .. (البقرة:102)؟ أهي طاعة السادة والكبراء المنحرفين المبطلين، وغدًا يقفون بين يدي الله يتجادلون يرجع بعضهم إلى بعض القول؟  أهي أهي أهي؟ آلاف الأسئلة يمكن أن تطرح في هذا الاتجاه.

وكل ذلك ممكن، لكن الذي نحن بحاجة إليه هو أنَّ نسأل أنفسنا هذا السؤال: كيف نعود إلى حالة السلام مع الدين، ونخرج من حالة الاحتراب، أو الرفض، أو النفي، أو المجادلة، أو الخروج، أو الإحساس بالظلم وهيمنة المشاعر السلبيَّة أو ذلك كله؟ فذلك هو المهم، لكن معرفة الأسباب مهمة ومفيدة؛ لأنَّه “إذا عرف السبب بطل العجب”، وإذا عرف السبب لعل من المكن إزالته، أو الحيلولة دون تأثيره.

حالتنا اليوم نحن المسلمين لا شك أنَّها ليست حالة صفاء مع الدين، وليست حالة تصالح معه (مصادر كليَّة أو جزئيَّة، أساسيَّة أو فروعيَّة، منهجًا أو شريعة، أو نظمًا متعددة، أو مقاصد أو غايات)، بل هي حالة خصام في الأعم الأغلب، ويتمنى الكثيرون لو استطاعوا تنحيته جانبًا بكل ما يمثل، وعاشوا بلا دين؛ لأنَّ الدين أصبح مسؤولًا في نظر هؤلاء عن ذبح الناس، وقتلهم، وتهديد أمنهم واستقرارهم، ومعايشهم وما إليها. وهم في هذه الحالة لا يفرقون بين الدين بكل تفسيراته ومعانيه، وبين مصادره بكل أنواعها، وبين ماضيه وحاضره. ويتمنى هؤلاء لو استطاعوا الحجر على هذا الدين أو مصادرته أو التقليل من آثاره كحد أدنى.

فما الذي حدث لنصل إلى هذه الصورة القاتمة؟

حدث انحراف وسوء فهم لمعنى الدين، وحقيقته، ولمقاصده وأهدافه، ولمصادره، ومراجعه، ولمحكمه ومفصله، وأطلق الإنسان لنفسه العنان في قراءته كما يريد، وتفسيره على ما يشتهي، فيستحن ويستقبح، ويأخذ ويعطي، وينظم وينظر بمقتضى مؤثراته ودواعيه التي لا علاقة لها بالدين في الأغلب الأعم، لكنَّه بعد أن ينظر لها يلبسها عباءة دينيَّة، ويضع عليها من الدين غلالة رقيقة أو كثيفة، ويسميها دين، بقطع النظر عن كونها من الدين حقيقة أو من تأويلات وانتحالات الضالين، والغالين، والمتبطلين، ومن إليهم.

وإذا نظرنا إلى أصول الأديان التي أنزلها الله (جل شأنه)، وتلقاها البشر نجد أنَّها كما ينزل القطر من السماء ينزل صافيًا نقيًا، فإذا لامس الأرض وبدأ يجري فيها، أخذ منها ما أخذ من غثاء -غثاء السيول- فيحمل الماء النقي الطاهر الصافي –آنذاك- بقايا أشجار وجثث حيوانات نافقة، وصخور وطين، وغير ذلك من خشاش الأرض، إلى أن تجد أنَّ ذاك الماء قد تغيَّر لونه عن ساعة نزوله، وصار كدرًا وطينًا، وأخذ ألوانًا لا عهد له بها، وصار له أشكال أخرى، والدين كذلك ينزل إلى الأنبياء والوحي نقيًا صافيًا لا شوائب فيه، فإذا وصل إلى الناس يبدأ بالتعامل معه، فيحمل ماءه النقي من تأويلاتهم وتفسيراتهم، وإضافاتهم ما يكدر صفاءه، ويغيِّر نقاءه، ويجعله شيئًا آخر.

بالنسبة للمرأة التي لم يكن أهل الجاهليَّة بكل أنواعهم ينظرون إليها على أنَّها إنسان، ولم يكن أهل الكتاب من قبلنا حتى تاريخ قريب ينظرون إليها هذه النظرة، لكن الله (جل شأنه) حين أنزل كتابه الكريم أنزل فيه ما يكفي العالم كله، ويستوعب الثقافات، ويسدد مسيرة الحضارات كلها مهما اختلفت، فلم تغرق آيات الكتاب بالتفاصيل، إلا فيما ندر، مما له علاقة بالمنهج، وضرب الأمثلة على مفاصله، وليقول في المرأة قولًا لا يقبل مزايدة، سوى بينها وبين الرجل في كل أعمال البر والخير، وأنَّه لن يضيع عمل عامل منَّا من ذكر أو أنثى، ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (النساء:124)، وبيَّن أنَّ شخصيَّتها مستقلة، فامرأة نوح وامرأة لوط لم يغني النبيان عن زوجتيهما شيئًا، وقيل ادخلا النار مع الداخلين ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (التحريم:10)، وامرأة فرعون لم تستطع جرائم فرعون أن تلفها تحت جناحيه بل ميَّزها الله (جل شأنه) وبنى لها بيتًا في الجنَّة بديلًا عن بيت فرعون، في ملك الدنيا ونار الآخرة ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (التحريم:11).

وحين نأتي إلى قضايا الحقوق والواجبات فيكفي أن نقرأ فاتحة المجادلة، لنعرف النقلة النوعية الكبرى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (المجادلة:1-4)، فهي في جدل مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لم تكن غافلة عن أنَّ الله قد أوجب طاعته، ولم تكن ناسية بأنَّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنَّه من ينزل الوحي عليه، وأنَّها مجرد امرأة من جيل التلقي تتلقى وحي الله عنه، وتلتزم بذلك، لكنَّها شعرت بأنَّ حرمانها من السكنى والنفقة وتحريمها على زوجها بمجرد كلمة سقيمة قالها الزوج في حالة غضب أو فقدان للتوازن والاتزان أمر لم تقبله؛ ولذلك جادلت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحل الذي قدمه، وتوجهت بالشكوى إلى الله لا إليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل بلغ من تكريم الله لها أن سوى بينها وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بضمير واحد حين قال: ﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾، فكأنَّ رسول الله وهي في موقع المتحاورين، ولم يأت شيء يقول لها: بأنَّك أسأت الأدب، كيف تجادلين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، من الذي جرَّأك عليه، كيف سوغتي لنفسك وأنت المؤمنة أن تجادليه وتحاوريه في أمرك بهذه الطريقة، فكانت من القرآن المجيد نقلة هائلة أن يسوى بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتلك المرأة، التي لم يذكر القرآن لنا اسمها ولا اسم زوجها؛ لأنَّ ذلك لا علاقة له بالمنهج، بل ذكرها مثالًا ونموذجًا ليبين أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمكن أن يُجادَل، ويمكن أن يُراجَع، ويمكن أن يدخل المسلم معه في حوار، والحكم آنذاك الله (جل شأنه) وكتابه الكريم.

إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين سمع خطيبًا يقول: “من يطع الله ورسوله فقد هدي، ومن يعصهما فقد غوى”؛ نهاه رسول الله عن ذلك، أي عن أن يجمع بين الله ورسوله في ضمير واحد، فيقول: “يعصهما”، ولكن القرآن في المجادلة جمع بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمجادلة.

وللحديث صلة –إن شاء الله تعالى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *