أ.د/ طه جابر العلواني
لأول مرة في حياتي أرى تشييع جنازة على دين إبليس، ومذهبه في النظر إلى الموت، فالموت نقطة فاصلة بين حياتين، الحياة الدنيا والدار الآخرة، يقترن عادة بنوع من الحزن والخوف والرجاء، فكل إنسان يشيع جنازة أو يشهد دفن ميت يتذكر الموت، ومفارقة هذه الحياة للدار الآخرة، وقد يدفعه ذلك إذا كان مسرفًا على نفسه أن يتوب إلى الله، ويستغفره، ويستعد للموت قبل نزوله، ويعلم أنَّ الموت هو البوابة التي تفصل بين دار العمل ودار الجزاء، فهي خط فاصل بين حياة يعيشها الإنسان كلها في عمل واستعداد للدار الآخرة، وللقاء الله (جل شأنه)، وللفوز برضاه، ودار حين يصلها من فرَّط بدنياه ولم يستفد بالأجل الذي أقَّته الله وأجَّله إليه ولم يستعد للموت قبل نزوله؛ فيكون متحسرًا في الدار الآخرة قائلًا: ﴿.. رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (المؤمنون:99-100).
ولكنَّنا شهدنا جنازة يُرقِصها المشيعون، ويرقص حولها الراقصات ويغني المغنون، فكانت وسيلة من وسائل تغيير مفهوم الموت، فحتى الموت لم يستطع أن يفلت من عمليَّات تغيير المفاهيم، فجرى تغييره في جنازة الشحرورة، وقال أحد معلقي الفضائيَّات الكبار: انظر كيف تحب الشحرورة الحياة، حتى وهي راحلة عنها. فصارت وصيَّة الشحرورة بأن لا يحزن عليها محبو غنائها، بل عليهم أن يفرحوا، ويظهروا السرور إلى آخر ما ورد في الوصيَّة العتيدة، وهكذا استطاع مشيعوا صباح أن يسخروا من الموت، ويجعلوا ملك الموت يستقبل لأول مرة -وأرجو أن تكون الأخيرة- بالطبل والمزامير والرقص والغناء، وترقيص الجنازة، مما أدهشه ولا شك، أو ذكره ببعض الشعوب البدائيَّة التي كانت تحاول أن تتغلب على أي تأثير يمكن للموت أن يتركه في نفوسها بشتى الوسائل.
لو أنَّ الشحرورة أوصت بأن تُحرق ويذر رماد جسدها على بلاد الشام خاصَّة وبعض البلدان الأخرى التي عاشت فيها حياءً أو خوفًا من الله (جل شأنه)؛ لتفهمنا الأمر، وستكون بذلك مثل ذلك الإسرائيلي أو الذي وردت قصته في التراث الإسرائيلي، حيث أوصى بأن يحرق ويذر في البحر، خوفًا من العذاب، أو من الحساب؛ لأنَّه كان في ذهنه وفي قلبه شيء من إيمان بأنَّ لهذا الكون ربًا، وأنَّ الموت باب يدخله الناس إلى دار الجزاء والحساب، والثواب والعقاب، نسأل الله السلامة.
لقد شهدنا قبل ذلك تشييع العديد من الفنانين، وكان يشاع مع موت كل فنان من أولئك السابقين، أنَّ هناك من انتحر أو انتحرت حزنًا على ذلك الفنان، واحتجاجًا على موته، أمَّا أن نشهد تظاهرة من الراقصين والراقصات فتلك هي المرة الأولى.
أيُّها المؤمنون حافظوا على إيمانكم، واحرصوا على مفاهيمكم، فإنَّ الموت جد، وإنَّ عمليَّات تغيير المفاهيم أو تدميرها قد وصلت إلى حد التلاعب بمفهوم الموت، والآخرة، والحساب والعقاب، وغيرها، ولا ندري ما الذي سيظهر بعد ذلك، فإنَّنا نعيش زمن الأعاجيب.
عفا الله عنا جميعًا، وعفا الله عن أسلافنا، وغفر لنا هذا التفريط في جنب الله إلى أن بلغت الأمور حد التلاعب بمفاهيم الموت والحياة والدار الدنيا والآخرة، ورحم الله الزمخشري المفسر المعروف الذي قال قبل عشرة قرون أو تزيد:
صفت الدنيا لأولاد .. *** ولمن يحسن ضربًا أو غنا
وهي للحر مخاض كدر *** غبن الحر لعمري غبنا
وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.