Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الزواج والأفكار الدخيلة

د.طه جابر العلواني

 

إنَّ أول ما تصاب به الأمم في أطوار تراجعها الفكريِّ والثقافيِّ مفاهيمُها، وأهم الأمراض التي تصيب المفاهيم تذبذبُها وميوعتها، ويحدث ذلك عندما تتساهل الأمَّة في مفاهيمها المؤسِّسة لنسقها الثقافيِّ، فقد تستعير الأمة -عندما تتراجع وتدخل مرحلة سبات حضاريٍّ- مفاهيمًا من أنساق أخرى، وتتداولها باعتبارها مرادفة لمفاهيمها، أو أنَّها تُعطي مثل المعاني التي تُعطيها مفاهيمها الأساسيَّة. من أخطر المفاهيم التي جرى تمييعها في مرحلتنا هذه «مفهوم النكاح أو الزواج»، حيث تمَّ تسييل هذا المفهوم وإضفاء معانٍ كثيرة عليه لم تكن لها به علاقة؛ ولذلك فقد هذا المفهوم خصوصيَّاته الملِّية والشرعيَّة في دائرة التساهل التي أشرنا إليها، وصرنا نسمع في الآونة الأخيرة بمفاهيم مستجدة غريبة عن المفهوم الأصليِّ, فشاع بين الناس مصطلح «الزواج العرفيِّ» ومصطلح «زوج Friend» و«نكاح المسيار» و«نكاح الـWeekend» و«نكاح الصيف» و«نكاح المصحف» و«نكاح الدم» و«نكاح الشيكولاتة»، ومَنْ يدري… فلعل الأوضاع الراهنة تُفرز لنا أنواعًا جديدة، بل إنَّ كلمة «الزنا» أصابها ما أصاب مفهوم النكاح، فصرنا نسمع بالزنا المعهود الذي سمَّاه الله بالفاحشة ووصفه بالسوء, قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً﴾ (النساء:22), فصار هناك والعياذ بالله «زنا المحارم» و«زنا الجيران» و«زنا الأخدان والأخلاء» وما تزال القائمة مفتوحة.

وهنا تتضح حكمة الباري حين حذَّر هذه الأمة من التلاعب بالمفاهيم والتساهل في استعارتها من أمم أخرى, فقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا﴾ (البقرة:104), وراعنا مشتق من مفهوم «الرعاية»، ولأنَّه في نسق ثقافيٍّ آخر حدث خلط بين «الرعاية والرعونة» فالقرآن الكريم يحذِّر المؤمنين من استعمال كلمة يمكن أن تتَّسع لمفاهيم مغايرة، وأراد أن يغلق الباب أمام تغلغل مفهوم سيء، فنهىٰ المؤمنين عن أن يقولوا «راعنا» وأمرهم بأن يقولوا «انظرنا», فالنظر هو المفهوم المنبثق من النسق القرآنيِّ الذي لا يحتمل ما تحتمله راعنا من الاختلاط بالنسق الآخر، ومن هنا فإن مفهوم «النكاح أو الزواج» من المفاهيم التي كان ينبغي للأمة أن تحرص على حمايتها وحفظها وعدم السماح بتمييعها؛ لأنها من المفاهيم التكوينيَّة, ومن المفسرين من يرى أنَّها من الأسماء التي علَّمها الله لآدم لكي يتنبَّه إلى الفروق بين الإنسان وجنس الحيوان الذي ينتمي إليه من الناحية العضويَّة.

إنَّ العرب لم يكونوا بحاجة إلى كثير مما ذكرنا من أنواع الانحراف، وما كان لمشكلة «العنوسة» أن تتحول إلى أزمة أو ظاهرة مرضيَّة تجتاح مجتمعاتنا بحيث لم يجد البعض لها علاجًا إلا بظواهر مَرَضيَّة قد تكون أشد فتكًا من الظواهر التي ذكرناها, وكان ينبغي لمثقفي الأمَّة وفقهائها أن يبحثوا في جذور تلك الأزمات والظواهر السلبيَّة ليجدوا -آنذاك- أنَّ تفكك الأمة وانفراط عقدها، وانصراف كل إقليم إلى ذاته ومشكلاته، وانطوائه على قضاياه الخاصة وراء أصل المشكلة, ترى لو أنَّ الروابط بين البلدان العربيَّة كانت أقوى مما هي الآن وأنَّ الجامعة العربيَّة كانت تجمع بين هذه الشعوب وتؤلف بينها، وتعزِّز المشتركات فيما بينها، وتذيب الفوارق وتفتح الحدود بين الأقاليم المختلفة لتصبح الأقاليم العربيَّة جزءًا من الإطار العربيِّ الأكبر, هل كانت مشكلات الفقر والجهل والمرض والعنوسة والإدمان والطلاق والعزوبة والعلاقات المحرمة هي الظواهر الأساسيَّة السائدة؟ وهل المكاسب التي تحققها الإقليميَّة والتشرذم مساوية للخسائر التي نجمت عن التمزُّق والتفرُّق؟

في الجزائر تشير الإحصاءات إلى أن نسبة الشباب ما بين (25 حتى 40 سنة) تزيد عن 65% من الشعب الجزائريِّ, فلو أنَّ الوحدة المغاربيَّة تحققت كما تحققت فكرة الجماعة الأوروبيَّة، هل كانت ظواهر البطالة والعنوسة والفقر وما إلى ذلك تأخذ نفس الحجم التي تأخذه في الأطر الإقليميَّة الضيِّقة؟ ناهيك عن الخسائر السياسيَّة الكبرى التي مُني بها شعبنا العربيُّ, إننا نتمنى أن يلتفت المثقفون وقادة الرأي في الأمة إلى أنَّ كثيرًا من الظواهر السلبيَّة في عصر العولمة لا يمكن أن تُعالج على مستوى أقاليم منفصلة تقوم بينها حدود وسدود, كما إننا نتمنى على الجامعة العربيَّة والهيئات الفكريَّة والثقافيَّة فيها و«الإيسسكو» أن تعمل على نشر الوعي بالفوائد الكبيرة التي يمكن أن تجنيها الأمة من توثيق روابطها لمعالجة الظواهر السلبيَّة التي لم يعد بوسع إقليم ما أن يعالجها بنفسه.

والله الموفق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *