أ.د/ طه جابر العلواني
قد ذكرنا أكثر من مرة وفي أكثر من دراسة ومقالة أنَّ التهجم على القرآن بدون ضوابط إلا بمنطق الإنسان العقلي -سواء أكان صاحب عقل فطري أو علمي أو فعَّال أو خامل أو أي نوع من أنواع العقل- لو تدخل خارج إطار التدبر بمفهومه القرآني ومعناه فإنَّه في هذه الحالة سوف يفسد الأمر كله، ولن ينال من كرم القرآن الكريم ما يناله المتجرد المفتقر القادم إليه بكل تواضع وإيمان ويقين، وحب طامع في نواله، حريصًا على عطائه، وطلبنا ممن يريد ممارسة هذه التجربة أن يتحلى بضوابط عديدة في مقدمتها ذلك التجرد الذي ذكرناه، ثم تطهير قوى وعيه تطهيرًا تامًا بالقرآن نفسه.
وقوى الوعي هي المذكورة في قوله تعالى: ﴿.. إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء:36)، فآفة السمع (الوقر) ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ (فصلت:5)، والوقر هو مرض معنوي ومادي، أمَّا المادي فلسنا بصدد معالجته، فذلك شأن أطباء الأذن والأنف والحنجرة، أمَّا ما نريد معالجته بالقرآن المجيد فهو الوقر المعنوي، والوقر المعنوي آفة تحول بين الأذان مهما كانت درجة صحتها وقوتها والاستماع الحسن لآيات الكتاب، وفهم وتدبر معانيه؛ ولذلك فلابد من إزالة هذا النوع من الوقر، قبل الاستماع لآيات الكتاب الكريم، والوقر المعنوي يصيب حاسة السمع إذا أكثر الإنسان من الاستماع إلى الكذب، وقالة السوء، والغيبة، والنميمة، والكلام الفاحش السيئ، والغناء المغري بالمعصية، وكلمات التحريض على الرذائل، والدعوات والشائعات الصادرة عن أولئك الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في مجتمعات أهل الإيمان.
كل هذه الممارسات تؤثر وتوجد وقرًا معنويًّا في الأذان يحول بينها بعد ذلك وبين الاستماع إلى القول الحسن، فبدلًا من أن تفيض عيونهم بالدمع وهم يستمعون إلى آيات الله تتلى عليهم يستمعون إليها وهم لاهون ساهون، غافلون أو معرضون، فهم لا يستمعون القول إلا وهم يلعبون، لاهية قلوبهم، وفي هذه الحالة لا يكون في مقدورهم أن يتبعوا أحسنه، لأنَّ الوقر المعنوي يدمر القدرة على التمييز بين ما هو سيئ وما هو حسن، فتختلط عندهم الأمور وتلتبس السبل، وقد يتساوى عند هؤلاء الصدق والكذب، والحق والباطل، والصلاح والفساد، وذلك يعني أنَّ عقل الإنسان ودماغه وقلبه يصيبه مثل ذلك، وهنا يتحول الإنسان إلى مخلوق آخر، وقد يقال له: اسمع وأطع. فيقول: سمعنا وعصينا.
فإذًا لابد من مقاومة هذا الوقر، وأخذ النفس بالشدة، ومنعها من الاستماع إلى اللغو، ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ (القصص:55)، ومنه الذنوب المسموعة كالاستماع إلى الغيبة وإن لم يشارك فيها، والنميمة، والكذب، والحسد، والدعاوى إلى الفحشاء، والتحريض عليها، فكيف بكلمات الكفر والفسق والاتهامات الكاذبة لهذا وذاك، إنَّها تدمر السمع، وتجعله مهيئًا لأن يسلك في عداد الذين لا يسمعون، والإنسان الذي يفقد السمع فقد نصف ذاته -والعياذ بالله.
والحاسة الثانية التي تحتاج إلى تطهير وتنقية ووقاية وحفظ هي البصر، فالبصر تصيبه الأمراض العضويَّة من عمى وعور وعشى وضعف وبعد النظر وقصر النظر ويقابل هذه الأمراض كلها أمراض معنويَّة موازية، فهناك أمراض معنويَّة تساوي العمى، وأخرى تساوي الرمد والعور والعشى وغيرها من أمراض، يعرفها أطباء العيون، أمَّا ما نتكلم عنه فهو النظر المؤدي إلى الاعتبار. فالنظر السليم الذي لم يصب بالأمراض المعنويَّة يستمتع بالحياة، فيرى في مخلوقات الله فوائد حسيَّة وزينة، ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (النحل:8)، ويرى في الشجر والنبات والحدائق والجنات البهجة، ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ (النمل:60)، حدائق ذات بهجة تبعث في النفس سرورًا ناجمًا عن الاعتبار بها، وكونها تعرف بمن خلقها، وتدل على وجوده (سبحانه)، وسابغ نعمه، وكمال فضله، فهو يقرأ في الكتب أفضل القراءات وأحسنها، يقرأ في كتاب الله، ويقرأ فيما خلق الله، إنَّه قارئ مستمر، والقراءة في هذه الحالة في الخلق والكون أو في الوحي ثم الكتب وما سطرته الأقلام عبر تاريخ البشريَّة يكتسب منها دروسًا وعبر، ومواعظ وبصائر تنمي خبراته، وتزيد تجاربه، ويستعين بها على اكتشاف الأرض وما فيها، ﴿وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس:5-8)؛ فيصل بذلك إلى الثلج، وبرد اليقين، والإيمان برب العالمين، فإذا رأى خيرًا قال ما شاء الله لا قوة إلا بالله، وحاول إنماءه وزيادته، وإذا رأى غير ذلك أنكره وحاول إبعاده عن نفسه وعن غيره، لتستقيم الحياة، فهو يميط الأذى عن الطريق، ويمهد للناس السبل، ويمشي في الأرض هونًا، لا يريد علوًا في الأرض ولا فسادًا، وهو يتحرى التقوى، ويبحث عنها، فإذا أصيب البصر بالعمى فلم يهده ذلك إلى الله ولم يعرف به ربه وإلهه وخالقه ولم يدرك به صفاته (جل شأنه) فهو الأعمى: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾ (الإسراء:72)، ولذلك يقول (جل شأنه): ﴿وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾ (الفرقان:40).
آنذاك يصبح هذا البصر عبارة عن حدقة تدور في محجر العين لا ترى إلا مثل ما ترى البهيمة من المرعى أو المكان القاحل الذي لا مرعى فيها، ﴿.. فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج:46)، فالعمى سوف ينتقل من الأبصار إلى القلوب؛ لأنَّ القلوب تفقد مع بصر كهذا مصدرًا من مصادر معرفتها، فتعمى هي الأخرى، وتتعطل عن العمل، فأنى لها –آنذاك- أن تدرك آيات الله، وتعلم عظمتها، وما تحمله من نور وهداية؛ ولذلك قال (جل شأنه): ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ (الزخرف:36)، فمجرد العشو وهو ضعف البصر وعجزه عن تمام الإبصار ليلًا يجعل من ذلك الإنسان فريسة سهلة من فرائس الشيطان، فإذا تعطلت الأبصار عن التعامل مع كتاب الله ورؤية آياته بعيون طاهرة لم تصب بأي مرض من الأمراض التي تجعلها كليلة عن إبصار بصائر القرآن والاتصال بأنوار آياته، وأسرارها، فإنَّها والحالة هذه ستكون عاجزة عن نقل شحنات التأثير القرآني إلى القلب والدماغ، لأنَّ هذا القرآن المجيد حين نزل على المتلقي الأول (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل على قلبه، ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ (الشعراء:192-194).