د.طه جابر العلواني
«الآخر» مصطلح وُلد وشاع في البيئة الغربيَّة أوَّلاً، ولا جذور له في البيئات العربيَّة الإسلاميَّة، قبل مرحلة التداخل الفكريِّ والثقافيِّ مع الغرب، وأغلب الظنِّ أنَّ المفهوم قد بدأ استعماله في أوروبَّا مع «الثورة الفرنسيَّة» وبدأ تداوله في أمريكا مع «الثورة الأمريكيَّة» فالثوَّار الفرنسيُّون أطلقوا على أنفسهم والمتبنيِّن لمبادئ «الثورة الفرنسيَّة»: «نحن»، وأطلقوا على مناوئيهم، من الذين وصفوهم بالاستبداد وعناصر الإقطاع والرجعيَّة وأعداء الحريَّة والمساواة والعدالة: «الآخر» أو «الآخرين».
والثوَّار الأمريكان -الذين كانوا يُحاربون من أجل تحرير أمريكا من هيمنة بريطانيا وفرنسا واستعمارهما, وتحقيق الاستقلال- كثيرًا ما كانوا يُشيرون إلى أنفسهم بقولهم: «We «people وإلى الفرنسيِّين والبريطانيِّين بقولهم «The others», وبقى هذا المصطلح متداولاً إلى أن اتحدت الولايات الأمريكيَّة الثلاثة عشر بعد مؤتمر فيلادلفيا, وأصبحت وحدتها القاعدة الأساسيَّة والمنطلق لوحدة أمريكا الشماليَّة القائمة حاليًا، فصار مصطلح «We people» يتصدَّر خطابات زعماء أمريكا ورؤسائها وإلى جانبه يبرز مصطلح «The others» عند الحديث عن غير الأمريكيِّين، فصار المصطلحان «نحن والآخر» شائعين على مستوى عالميٍّ خاصَّة في مجالات «الخطاب النضاليِّ» و«التحريضيِّ»؛ ولذلك فإنَّ من المتعذِّر أن تولد الاتّجاهات العالميَّة الحقيقيَّة في بيئة غربيَّة؛ لأنَّ الأفكار المرتبطة بـ«نحن والآخر» جعلت الاتِّجاهات العقليَّة والنفسيَّة للفكر الغربيِّ تقود دائمًا إلى نظر الغربيِّ إلى نفسه وذاته على أنَّه «مركز الكون»، وإلى غيره على أنَّه هامش وآخر، ولا تجتمع المشاعر والاتِّجاهات العالميَّة مع الاتجاهات المركزيَّة.
وفي مجالات الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد يجد الغربيُّ نفسه مسوقًا -شاء أم أبىٰ- نحو النظر إلى نفسه باعتبارها «ذاتًا» وإلى غيره باعتباره «موضوعًا».
أما «الإسلام» فإنَّه -منذ البداية- قد نظر إلى البشريَّة –كلِّها- على أنَّها داخلة في مفهوم «نحن», واستبعد -من ساحته الفكريَّة- مفهوم «الآخر» إلا بالمعنى اللُّغويِّ المجرَّد من أيَّة تحيُّزات أو ظلال فكريَّة تؤدي إلى مواقف تتَّسم بالتمييز بأي نوع من أنواعه.
فالأسرة البشريَّة الممتدة -في نظر الإسلام- كلُّها تندرج في «نحن»: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجر:13), ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء:1).
ويُحدِّد القرآن المجيد «الآخر» في مخلوق واحد, هو «الشيطان»، قال تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ (يس:60), ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ (فاطر:6).
خلاصة الأمر: إن مبدأ «نحن والآخر» مبدأ قد وُرِّد إلى الساحة الإسلاميَّة، خاصّة بعد أن أصبح المسلمون متَّهمين, يحمَّلون مسئوليَّة كل ما يجري في العالم من مشكلات لأسباب لا تخفى على كثيرين, فإذا اختلَّ اقتصاد بلد قيل له: لأن العرب رفعوا أسعار البترول، وإذا جاع بلد أو افتقر أو أوذي أو تضرَّر، قيل: إنَّ المال العربيَّ والتجارة العربيَّة والبترول العربيَّ والإسلاميَّ هي السبب، وذلك يعني أنَّ من مقاصد خصوم هذه الأمة أن يجعلوها على الدوام «آخرًا» مكروهًا بالنسبة للعالم -كلِّه- وفي حالة دفاع عن النفس وإحساس بالهزيمة, وشعور بالذنب وبالاتهام، فلا ينبغي لعاقل أن يُستدرج إلى مثل هذه المواقف ويتقبل على نفسه كل هذه الاتهامات؛ ليجعل من نفسه ميدانًا لأمور هو بريء منها, وأنَّه لا يليق بأحد أن يوجِّه ذلك إليه, وألا يتقبَّل أن يكون آخرًا لأيِّ أحد، ولا يستخدم من المصطلحات إلا ما يعرف أصله وفصله.
والحديث عن «نحن والآخر» حديث متشعب, وذو شجون, له كثير من الظلال وكثير من الآثار، ويحتاج إلى بحوثٍ مستفيضة لكي تتجلى هذه الأسطورة: أسطورة الآخر التي من المؤسف أنَّ الأمة الإسلاميَّة قد استُدرِجت لها, وردّدها مثقفوها ورجال العلم والفكر والدين فيها، إضافة إلى بعض حاكميها، وتوهَّمت أنَّها تحمل ثقافةً وفكرًا يميِّز بين الناس إلى ذاتٍ وموضوعٍ, أو «نحن وآخر»، ويؤسِّس على ذلك ما عُرف أو سُمِّي بثقافة الكراهية في الإسلام تجاه الآخر، ولا وجود لأي جذر ثقافيٍّ في منابع ثقافتنا الأصلية.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.