Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

العراق والحزبيَّة

أ.د/ طه جابر العلواني

          ابتلي العراقيُّون بمصائب كثيرة جدًا، لو استفاد جيرانهم دروسًا من تلك المصائب والمتاعب لتجنبوا كثيرًا من المشكلات، ومن بعض تلك المتاعب التي عانى العراقيُّون منها وما يزالون إضافة إلى الطائفيَّة وتقسيمات الناس وانقساماتهم، وانفصال النظام عن الشعب بتآكل شعبيته شيئًا فشيئًا، ابتلوا بالاتهامات اللاأخلاقيَّة بين السياسيين، والمشتغلين في الأحزاب وما تمارسه من فوضى يسمونها عملًا سياسيًّا، وعند النظر في حقيقتها لا يجد الإنسان فيها إلا تلك الأمراض الموروثة والمتداولة من تعصبات عرقيَّة وعشائريَّة وطائفيَّة، وما إليها.

 قلت في مقالة سابقة: إنَّ من أخطر الأمور أن يسيس شعب، دون أن تكون له خبرة وممارسة وتنشئة سياسيَّة، تجعله قادرًا على التمييز بين ما هو عمل سياسي، وبين ما هو عمل فوضوي انتقامي، يمكن أن يوصف بأي شيء إلا بأن يكون عملًا سياسيًّا، والذي حصل للعراق بعد نجاح الانقلاب الأول في الرابع عشر من تموز أنَّ نظام عبد الكريم قاسم استطاع أن يزج الشعب العراقي كله شيبه وشبابه وصبيانه وأطفاله ونساءه ورجاله وعلماءه وجهلاءه في العمل السياسي؛ لأنَّ الأحزاب ظنت أنَّها بذلك سوف توجد بيئة تمكِّنها من التجنيد، تجنيد العناصر التي تحتاجها للتضخم، وتكون فاعلًا في العمل السياسي، ولكي يحصن كل حزب أعضاءه، ويحول بينهم وبين الإعجاب بأحزاب أخرى والانضمام إليها؛ كانت فكرة تبادل الاتهامات وفبركة الشائعات، فكل حزب لديه لجنة مهمتها صناعة وفبركة الشائعات ضد قادة الأحزاب الأخرى، فإذا كان أولئك القادة قد بنو شعبيّتهم على حسن سلوكهم وتدينهم، وحسن خلقهم، فالمطاعن التي تفبرك لهم في هذه اللجان تكون ذات تركيز عال على الأخلاق والسلوكيَّات، ومنها التساهل في القذف في الأعراض وما إلى ذلك، وإذا كان قائد أو قادة ذلك الحزب بنو شعبيّتهم وسمعتهم القياديَّة على تاريخهم الوطني ومقاومتهم للاستعمار ومخططاته، فالمطاعن ينبغي أن تفبرك وتصاغ للنيل من وطنيّتهم، كأن يقال: إنَّ فلان شوهد وهو يدخل السفارة الأمريكيَّة أو البريطانيَّة متنكرًا ليلًا، ولما خرج تبيَّن أنَّه قد تسلم مبلغًا كبيرًا من المال، دعمًا له ولحزبه.

وحين أدخلت السجن أواخر سنة 1959 و1960 عزلت في زنزانة لوحدي، وحمدت الله أن كنت لوحدي، فاعتبرتها فرصة لمداورة القرآن، واستعادة ما نسيته منه، لكنَّني لم ألبث إلا أيامًا، فجاء مدير السجن يخبرني بأنَّ هناك أحد القادة المحليين لحزب البعث سيضمه إليَّ في زنزانتي لأيام قليلة، خوفًا عليه من اعتداء الشيوعيين لو وضعه في القاعة الكبيرة، وهكذا صرنا اثنين، صاحبي البعثي وأنا، وقد أكرمت وفادته باعتباري سجينًا أقدم منه، فقدمت له مما معي من سجائر -إذ كنت مدخنًا آنذاك- وبعض الأطعمة المحفوظة، ولم أدخل معه في أي نقاش، واكتفيت باسمه الذي ذكره مدير السجن، ولم أسأله خوفًا من أي إحراج، لكن الرجل بعد أن عاش معي يومين، ورأى نظام حياتي، وتقديري له، واحترامي، والتزامي بصلواتي، وبقراءة القرآن وحفظه؛ قال في آخرها: عجبت لك، لم تسألني عن نفسي، وعن انتمائي، وعن موقفي مما يجري، وأسباب اعتقالي؟ قلت له: لا أجد ما يحملني على مساءلتك؛ خوفًا من أي إحراج، وأنت الآن جاري وصاحبي بالجنب، عليَّ أن أحترمك، وأبتعد عن أي إحراج لك أو إزعاج. قال: ولكنَّني أحب أن أقدم لك نفسي. قلت له: هذا أمر يعود لك، أمَّا أنا فلا أسألك عن شيء. فبدأ الرجل يتحدث عن نفسه، وعن حزب البعث، وتاريخ انضمامه إليه، ونضاله مع الحزب، داخله وخارجه، وأنا أستمع، ثم سألني: هل لديك أي تعليق على الحزب ومبادئه، وعلى شخصي؟ قلت له: أنت الآن بمثابة ضيفي، وإن كنَّا جميعًا أنت وأنا ضيوف السجن، لكنَّني لا أرى من حقي إزعاجك. قال: لدي بضعة أسئلة أود أن تجيبني عنها بصراحة ووضوح. قلت له: وهل ترى أنني سأصدقك؟ قال: مثلك لا يتوقع منه الكذب. قلت له: إذًا سل. فذكر أهم رمز للإسلاميين –آنذاك- ألا وهو الشيخ/ محمد محمود الصواف، وقال: أتعرفه؟ قلت له: دعك من هذا، أعرفه أو لا أعرفه ليس بالأمر المهم، ولكن ماذا تريد من ذكرك له؟ قال: علمت أنَّ ابنته الكبرى عشقت سائق سيارته، وهربت معه. قلت له: طيب، شقيقة الملك الغازي -وهؤلاء أشراف- اتهمت بأنَّها أحبت الطباخ الأرمني في منزلهم، وتزوجته سرًا، ثم هربت معه. قال: ولكن هذا عالم دين، كيف تكون ابنته بهذا الشكل؟ قلت له: طيب، انتهي مما تريد قوله، وقل ما لديك. قال: وسمعت أنَّ ابنه الأكبر شاذ جنسيًّا، ويغري بعض الشباب ببعض الأموال التي يأخذها من أبيه؛ ليرضي شذوذه معهم، وهو نفسه الشيخ كان متَّهمًا في أخلاقه، والآن هو يأخذ الأموال من السعوديَّة وغيرها، ولديه قصر ضخم، وكذا وكذا. قلت له: هل انتهيت؟ قال: نعم. قلت له: أتريد أن تسألني عن هذا؟ قال: نعم، أريد منك جوابًا شافيًّا في هذا الأمر، فما رأيك فيه؟ قلت له: هل لديك أم؟ قال: نعم. قلت: أهي على قيد الحياة؟ قال: نعم. قلت: هل لديك أخوات؟ قال: نعم. قلت له: كلهن متزوجات؟ قال: بعضهن تزوجن وبعضهم ما يزلن عزباوات. قلت له: طيب، إذا كنت مستعدًا لتصديقي فيما أقول تكلمت، وإلا فلك أن تعتقد به وبغيره ما تشاء، فذلك لا يهمني كثيرًا. قال: لا يمكن أن أشك بمثلك، ولا أرى لك مصلحة في أن تقول لي ما ليس بحق. قلت له: أنا أعرف عن هذا الرجل الكثير، وأعرف أنَّه رمز للإسلاميّين سنَّة ويتبعه بعض الشيعة كذلك. قلت له: أمَّا ابنته فالذي أعرفه أن لديه ابنة لا يجاوز عمرها ثمانية سنين، ولا أعرف له ابنة أكبر من هذا السن، فهل تتوقع من طفلة عمرها ثمان سنوات أن تعشق وتدبر للهرب وتهرب؟ قال: لا. قلت له: أمَّا السائق والسيارة فأنا أعلم أنَّه لم يمتك لحد الآن سيارة تخصه، لا هو ولا أولاده، وهو ما يزال يستعمل سيارات النقل العام، وهناك موقف مقابل بيته في منطقة “الكسرة” في الطريق إلى “الأعظميَّة” لو راقبته لوجدته يركب هذا الأتوبيس إذا لم يأته صديق يأخذه بسيارته، وكانت السيارة –آنذاك- لا يجاوز ثمنها ألف دينار في المتوسط. قلت له: فمن لا يملك سيارة لا يتصور أن يكون له سائق. وأمَّا ولده الذي تشير إليه فهو طالب –آنذاك- في السنة الثالثة من كليَّة الشريعة أو الثانية، ولك أن تسأل عنه زملاءه وأصحابه، فالمنحرف إلى المستوى الذي تقول لابد أن تظهر تصرفاته وتكشفه لمن يخالطهم أو يدرس معهم، ذلك ما أعرف، ولكن الله أعلم مني ومنك به وبغيره؛ فأطرق الشاب، ثم رفع رأسه وقال: ألا قاتل الله الحزبيَّة، ثم قال: أنا لا أعرف هذا الرجل، ولم أسمع صوته إلا في المذياع، ولا أعرف شيئًا عنه، ولكن البرنامج الثقافي للحزب فيه فقرة يجري فيها التعريف بقادة الأحزاب المناوئة للحزب أو المنافسة له بشكل يجعل العضو الحزبي ينفر من بقيَّة الأحزاب، ويتمسك بحزبه، ولا ينصرف عنه بحال. قلت له: يا أخي، كم هم السياسيُّون في هذا البلد، في الوقت الحاضر؟ لو فرضنا أنَّ لدينا ألفًا من المتصدرين للعمل السياسي، وأنت تعلم أنَّنا بيئة تقدس الشرف والعرض، وقد يفضل الإنسان أن يخسر حياته على أن يخسر سمعته في عرضه وفي شرفه، فهؤلاء الألف لو فرضنا أنَّ لكل منهم أسرة تتألف من خمسة أفراد أبوه وأمه وزوجته وأختان إذا كان من الشباب، وإذا كان أكبر من ذلك فقد يكون لديه بنات، فإذا بدأت الأحزاب كلها تتقاذف التهم في الأعراض كالذي ذكرت عن الشيخ/ الصواف، فما الذي يبقى؟ سوف ينبذ الجميع، فلو أنَّ كل الأحزاب أخذت بهذه النظريَّة، وبدأت تفبرك قصصًا كالتي ذكرت، ما الذي سيحدث؟ ستحدث فوضى في المجتمع كله، وستشيع الفاحشة، وتنتشر قالة السوء، ولا يبقى أحد في منجاة منها، بما في ذلك عبد الكريم قاسم الذي هو في سُدة الحكم الآن وعائلته وعرضه، قال: أنا معك، وأعاهدك أنَّني لن أعود إلى مثل هذا، وإذا قُدِّر لي أن أبقى في الحزب وأن أتسلم قيادة فيه، فسألغي مثل هذه اللجان، ونقتصر على المنافسات الشريفة دون طعون.

قال: وعلى شاكلة هذه الفبركات والأكاذيب فمنها مثلًا لو تكلمت عن فائق السامرائي، قال: هذا رجل لم يكن يهمه أن تقول لديه عشيقة أو صديقة، فهو يكتب مقالاته الوطنيَّة والقوميَّة في ملهى ليلي مشهور -آنذاك- اسمه  (select)، فأن تقول: بأنَّه يشرب الخمر أو لديه علاقات نسائيَّة فذلك لا يضره، ففبركنا له شيكًا كأنَّه صادر من السفارة البريطانيَّة باسمه، كمساعدة لجريدته، ولحزب الاستقلال القومي المعروف. قال: فهذا لا يضره الاتهام في الخُلق، ولكن يضره جدًا أن يتهم في وطنيّته، وذلك ما فعلناه. وأبدى أسفًا شديدًا، وقال: لقد أرعبتني، فلدي أختان، ونحن فعلًا مجتمع عشائري، إذا ساءت سمعة أيَّة فتاة من بناتها فإنَّها تكون قد حرمت أسرتها كلها أخواتها وبنات أعمامها وأخوالها وكل من له صلة بها من الزواج، وحطمت مستقبلهم.

 فليتق الله الناس في تداول الاتهامات، وترويج الشائعات، فللخصومات شرف وحدود، عليهم أن يقفوا عندها و: ﴿.. إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (الأنفال:73).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *