د.طه جابر العلواني
المسجد مؤسسة دينية واجتماعية في غاية الأهمية، وآثاره في الفرد والأسرة والمجتمع عديدة ومتنوعة، وتعتبر العبادة وذكر الله -تعالى- دعامة أساسيّة من دعائمها، تؤديان إلى تزكية الإنسان وتطهيره عقلاً ونفسًا وقلبًا ووجدانًا وجسدًا ومكانًا وبيئةً، كما أنَّ لهما آثارهما الهامة في الأسرة؛ حيث تؤدي إلى إشاعة جوٍّ من الألفة والأنس بالله بين أعضائها، والتراحم والمودة فيما بينهم، بحيث يحترم صغير الأسرة كبيرها، ويرحم كبيرها صغيرها، ويسودها التضامن والتكاتف، وتنأى بذلك عن المؤثرات السلبية، فتصبح الأسرة بذلك وحدة صغرى، قويَّة متماسكة، من وحدات المجتمع الأكبر.
وتلك الآثار الإيجابية التي تتركها العبادة والصلاة والاعتكاف في المسجد، كما تنعكس على الوحدة الصغرى في المجتمع -الأسرة- تنعكس كذلك على المجتمع كله، فيتزكَّى المجتمع من الأخلاق والتفرقات السلبية، وينتفي منه الحقد والحسد والبغي والاعتداء ويُستبدل بعلاقات التعاون والإخاء والتراحم والتكافل فيصبح المجتمع، وكأنه أسرة واحدة ممتدة؛ فآثار المسجد والعبادة والذكر تنداح في المجتمع كما تنداح موجات المياه في دوائر حينما يُلقى في بركة الماء حجر، وتتصل موجات الضياء في طرد الظلمات كما تطرد الأنوار الظلام. ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ (النور:36-37).
وللمسجد دور تعليمي خطير لا يقل خطورة عن دور المدرسة، فهو مدرسة تتعامل مع شرائح المجتمع -كلها- بمختلف الأعمار، وكل من هذه الشرائح يأخذ بنصيب وافر؛ ففيه يمكن أن يتعلم الأميُّون فيصبح المسجد بالنسبة لهم «مركزًا لمكافحة الأمية»، ويتعلّم الصغار والكبار والذكور والإناث القرآن الكريم، والمعارف الأساسية التي يحتاجونها من أحكام طهارة وصلاة وعبادات أخرى، وفيه يتعلم الجميع قواعد السلوك الإسلامي القويم.
وخطبة الجمعة هي ساعة من مقرر تعليمي لو أراد الخطيب الكفء استثمارها؛ فإنَّ جمهور صلاة الجمعة يمكن أن يتلقُّوا مقررًا تعليميًّا كاملاً في كل عام، بحيث تنتفي الأميّة الدينية عن روَّاد المساجد، وتُعَالَج كثيرٌ من الظواهر السلبية في المجتمع.
والدور التعليميُّ للمسجد فيه من المزايا ما لا يمكن توفيره في أيِّ مكان آخر، حيث يستطيع المعلم والمتعلم أن يدركوا الارتباط الوثيق بين العلم والعمل، وبين المعرفة والقيم، وبين العلم والعبادة، فيكونوا أكثر إقبالاً على العلم، وأشد اهتمامًا به وجِدًّا في طلبه.
كما يمكن للمسجد -إذا أُسست فيه مكتبة كاملة، فيها مكتبة سمعية وبصرية يتم انتقاؤها بعناية- أن يؤدي دور مكتبة الحي العامة. وللمسجد دور اجتماعيٌّ آخر -لا يقل أهميَّة عمّا تقدم- في بناء الألفة والمودة والعلاقات الطيبة المتينة بين رواده، والتي يُشكِّل المسجد أنسب مكان لبنائها وإنمائها، فيعرف الأغنياءُ الفقراءَ في مسجد الحيِّ، فيعملون على سدِّ خلتهم واحتياجاتهم وتقديم يد العون لهم، وقد تُتاح الفرص لهم ليعرف كل منهم أحوال المصلين الآخرين، وقد يمكن إقامة علاقات اجتماعية وعلاقات عائلية، أو علاقات عمل وما إليها؛ ذلك لأنَّ الثقة بين المتدينين والمصلين من اليسير بناؤها؛ لوجود عنصر حسن الظن، أو سهولة بنائه فيما بين المصلين، كما يمكن الاستفادة من المسجد وأجوائه الروحية لمعالجة بعض المنازعات والإصلاح بين الناس على مستويات مختلفة.
وإذا نُظِّمت أولويَّات الاستفادة من المسجد ودوره ورسالته بشكل دقيق، فإن من الممكن للمسجد أن يكون ميدانًا لتوفير الطاقات اللازمة لأعمال تطوعيَّة كثيرة، بحيث يكون مؤسسة مساندة لجهود الدولة والمجتمع في مواسم الأزمات والكوارث الطبيعية والظروف الاستثنائية، وفي معالجة كثير من المظاهر والظواهر السلبية، فيمكن للمسجد أن يؤدي دورًا هامًّا في كفالة الأيتام، والحثِّ على ذلك، ومكافحة الجرائم والمخدرات، والتنفير من العادات الضارة؛ كالتدخين، ومضايقة المارة، وخدش الحياء باستعمال العبارات غير اللائقة، والإخلال بنظم المرور والتزاحم في الطرقات، ومقاومة ظاهرة التسول والتسكع، وإلقاء النفايات في الشوارع والطرق العامة، ويمكن أن يكون للمسجد دور في نظافة الحيِّ، وحسن تنسيقه، وتشجيره أو تزيينه -بحسب الظروف والحاجة- واستثمار العطلات والإجازات لتعليم المصلِّين -خاصة الشباب منهم- العمل التطوعي في هذه المجالات، وفي كل ذلك أجر وثواب كبير وعبادة، وإشغال لهم فيما هو نافع ومفيد وتربويُّ.
يمكن أن تلحق بالمساجد بعض المرافق المهمة، منها على سبيل المثال لا الحصر: أماكن عقود النكاح؛ لكي يُذكِّر عقد القِرَان والاحتفال به في المسجد بقدسيَّة النكاح وضرورة احترام الحياة الزوجية والمحافظة عليها، ويُسند إلى أئمة المساجد المؤهلين إجراء تلك العقود، وعقد دورات للشباب الراغبين بالزواج لتعليمهم ما يجعلهم ذكورًا وإناثًا يدركون أن «الزواج» هو بناء مؤسسة اسمها «الأسرة»، ويعطون لهم دروسًا في حقوق وواجبات وآداب كل من الزوجين نحو الآخر، كما يعلِّمونهم كيف يربُّون أبناءهم، وحقوق الطفل والولد على والديه، وسائر ما من شأنه أن يُساعد على إرساء بناء الأسرة على أمتن الدعائم وأقواها؛ وبذلك سوف يؤدي المسجد دورًا هامًّا في التقليل من نسب الفشل في الزواج والخلافات الزوجيَّة، والإيذاء الجسدي الذي يلجأ بعض الأزواج إليه، وتتحول الأسرة إلى محضن هادئ سعيد، ينشأ فيها الأطفال النشأة الصالحة السليمة بإذن الله.
ولكي يؤدي المسجد رسالته الاجتماعية هذه لابد من العناية التامة به، من حيث العمارة والصيانة الدائمة والنظافة، وحسن اختيار العاملين فيه، والعناية بتأهيلهم ليُمكِّنوا المسجد من أداء رسالته هذه، والقيام بهذه الأدوار -كلها- بكفاءة عالية واقتدار، وكل ما ينفق على المسجد -آنذاك- سوف يُعتبر متواضعًا جدًّا مقابل الخدمات الجليلة التي يقدمها للمجتمع، فلنحرص على إحياء «رسالة المسجد الاجتماعية» وتفعيل دوره في حياتنا لتحقيق كل تلك الأهداف النبيلة، والله الموفق.