أ.د/ طه جابر العلواني
قال (تعالى): ﴿ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (النحل:75-76).
دونالد رامسفيلد كان وزيرًا للدفاع في عهد بوش الصغير، وكان وكيل وزارته الأثير لديه بول ولفويتز، وهو يهودي يعمل أستاذ اقتصاد في جامعه جونز هوبكينز، يعتبر هو العقل المدبر لضرب العراق واحتلاله، وقتْل مليون عراقي، وتشريد سبعة ملايين، وتدمير البنية التحتيَّة التي بناها العراقيون بعرقهم ودمائهم وأخيرًا ببترولهم عبر قرنين من الزمان، واستطاع أن يعيد العراق إلى أواخر القرن الثامن عشر، فلا جسور ولا كهرباء ولا ماء، ولا صناعة. المهم بول ولفويتز هذا لم يتزوج، وكان نصيبه من النساء فتاة إيرانيَّة منحرفة اتخذته صديقًا، واتخذها صديقة، وهي التي طُرد بسببها من إدارة البنك الدولي، بعد أن أنهى مهمته في تدمير العراق، وتخريبه، والانتقام لبنات صهيون من نبوخذ نصر، وأخذ الثأر عن السبي البابلي.
ليس المهم هذا، فقد رأيت الرجل في حياتي مرة واحدة، كان ذلك في ذكرى مقتل السيد/ محمد باقر الحكيم، الذي لقب بشهيد المحراب؛ لأنَّ اغتياله كان قد تم في المسجد، حضر الرجل في واشنطن حفل التأبين، وحضرته مدعوًا من آل الحكيم، الذين تربطني بهم علاقة صداقة بدأت في عهد السيد الراحل عميد الأسرة السيد/ محسن الطباطبائي الحكيم، ألقى الرجل -أعني بول ولفويتز- كلمة حزينة في تأبين الراحل السيد/ محمد باقر الحكيم، قرأ سورة الفاتحة بالعربيَّة، وبدأ يتحدث عن مظلوميَّة الشيعة، وظلم السنَّة لهم في سائر الأنحاء، وبعد أن انتهى جاء السيد/ أحمد الـﮕـلبي وأخذ بيده وقدمه لي، وقال له: إنَّ هذا الرجل يستطيع لو أرسلتموه لنا ثلاثة أشهر إلى ستة أن يقنع السنَّة بالهدوء، والتعاون، والدخول في العمليَّة السياسيَّة، فوددت أن أعرفك به، وأقول لك ما يستطيع أن يفعله، فتقدم مني وسلم واحنى رأسه، وقلت له: مستر ولفويتز أنا أعرف أنَّ الشيعة فرقة مسلمة، وطائفة من طوائف المسلمين، فهل لديكم بين اليهود شيعة كذلك؟ لأنَّي رأيتك تتباكى بحيث جعلتني أفكر أنَّني أمام رادود من أولئك الذين احترفوا إثارة البكاء، وقيادة حفلات اللطم بين الشيعة؛ فابتسم ابتسامة صفراء، وتمعر وجه أحمد الـﮕـلبي، وأردفت قائلًا: مستر بول ولفويتز لا تصدق الدكتور الـﮕـلبي فيما قاله عني، فإنَّني رجل كبير السن، مريض، اعتزلت العمل السياسي منذ أربعين عامًا، ولا أحب أن أعود إليه، لكن الرجل لم ينس على ما يبدو توصية الـﮕـلبي؛ ولذلك ضغطت وزارة الدفاع عليَّ للقيام بزيارة العراق، والعمل على تهدئة الأوضاع، على أن أكون بعد ذلك في الموقع الأول في الدولة أو الثاني، فرفضت ذلك في قصة طويلة، قد أتناولها في مناسبة أخرى؛ ولذلك اخترت أن أعود إلى أرض فيها تراب عربي وقد ناهزت الثمانين، فسكنت مصر الكنانة منذ ذلك الوقت، لأبتعد عن الضغوط.
أمَّا عنوان مقالتي هذه فقد أعجبتني سيدة أمريكيَّة وابنتها الشابة حين استقبلتا دونالد رامسفيلد وهو يدخل قاعة كبيرة لإلقاء محاضرة فهتفت السيدة وحدها في وجهه بأنَّك مجرم، قتلت الأفغانيين، وقتلت العراقيين، لا يليق بأحد أن يستقبلك أو يستمع إليك، وكم حاول أن يفلت فكانت تصر على الوقوف في وجهه، وتهتف في وجهه أنت مجرم أنت قاتل أنت سفاح، اخرج من هنا .. إلخ، وكذا ابنتها أو قريبة لها أو إحدى تلامذتها وقفت له في نهاية المحاضرة وهو خارج لتهتف بسقوطه، وبأنَّه مجرم سفاح، قتل مليون عراقي، وآلاف من الأفغانيين، فلا يصلح لأن يحاضر أو يقدم للناس أي معرفة، فهو مجرم ينبغي أن يكون في السجن.
فقلت في نفسي يا ألله، إنَّ الإنسان إذا تمتع بالحريَّة، ونشأ عليها؛ تصبح امرأة أو فتاة مثل اللتين رأينا أقوى من طاغية جبار، مغرور، كان يتطاول على حكَّام أوروبا، ويملأه الغرور إذا زاره أحد من حكَّام الشرق، أو زار بلدًا من بلدانهم، إنَّه كان يفر وكأنَّه جرز مزعور من وجه هذه السيدة ثم من وجه ابنتها، إنَّ الحرية تصنع العجائب، وبدونها لا تظهر إنسانيَّة الإنسان ولا تبرز طاقاته.
الحريَّة هي صانعة الرجال، وهي الدواء لسائر أمراض النفس من الخوف والجبن والنفاق والرياء، وما إليها، رحم الله يوسف السباعي الذي تخيَّل الحريَّة مادة يمكن أن تشترى من العطارين، مثل الشجاعة والجبن وغيرها وكتب روايته الشهيرة أرض النفاق، فما أحوجنا إلى الحريَّة، لنبني الرجال، ونحفظ مستقبل الأجيال.