الحلقة الثانية
د.طه جابر العلواني
في الحلقة السابقة حاولت أنْ أُشير إلى ما يجري في عالم اليوم، ونظرة المعاصرين إلى الدين، ومحاولات قيادة العولمة لتوظيفه لتكريس سياساتها في العالم، كما نبَّهت إلى الضغوط -الموروثة من تراثنا التاريخي- التي يتعرَّض لها المتخرِّجون في كليَّاتنا ومعاهدنا المعنيَّة -فيما يُعرف بالدراسات الشرعية- في مواقف الحوار مع قيادات الأديان الأخرى، سماويَّة كانت أو وضعيَّة.
ولعلَّني أستطيع معالجة هذا الجانب في هذه الحلقة -بإذن الله تعالى- بإيجاز شديد: تراثنا الإسلامي وعلومنا النقليَّة -التي لانزال ندرسها في كلياتنا ومعاهدنا المتخصصة بالتعليم الديني- تراث تكوَّن والمسلمون يمثِّلون القوة الأولى في العالم، أو القوة العظمى كما في تعابير العصر، ومهما تكن القيم الإسلامية السائدة في المجتمع محكمة ومتينة غير أنّ الإحساس بالقوة يجعل المفكرين والمنظِّرين -ومنهم الفقهاء- يشعرون بشيءٍ من الاستعلاء قد يجعل حضور الآخرين أو المخالفين في أذهانهم -عند التنظير- محدودًا.
فقد تصدر عنهم آراء أو مقولات فقهيَّة تستهدف إيجاد حاجز نفسيٍّ أو حسيٍّ -بين المسلمين وخصومهم- لحماية الجبهة الإسلامية الداخليَّة، فإذا أضيف إلى ذلك حالات الحرب فقد تصبح تلك المقولات الفقهيَّة هي الرائجة والسائدة في تحديد العلاقات مع أهل دار الدعوة التي يُطلق عليها بعض الفقهاء دار الحرب.
والقضايا الفقهيَّة أو القانونيَّة -بعد أن تستقر ويمرُّ على استقرارها وقت طويل- تصبح جزءًا من ثقافة الناس، سواء تذكَّروا أصول تلك الثقافة الفقهيَّة أو القانونيَّة أو لم يتذكَّروها، وكما أشرت فإنَّ تخرُّجي في الأزهر -وهو أكثر مراكز التعليم الإسلامي في العالم اعتدالاً وانفتاحًا- قد يجعل أصول الفقه والفقه وبقية علوم التراث جزءًا من تكويني العقليِّ والنفسيِّ، فحين أجد نفسي بين ذلك العدد الكبير من القيادات الدينيَّة فإنَّ المؤثرات التي تقدمها ثقافتي ودراساتي الإسلاميَّة لا بد أن تُستدعى وأن تكون حاضرة، خاصة أنَّ القوم قد جاءوا باقتراح -لم أسمع مثله من قبل، ولم تهيِّئني دراساتي الإسلامية له- وهو وحدة الأديان، ثم إنَّ قيادة المؤتمر جاءت باقتراح لم أتوقعه أبدًا، وهو أنَّ كلَّ واحد من ممثِّلي الأديان المشاركة عليه أن يؤدي صلاة أهل ملَّته، وعلى الآخرين أن يشاركوه في صلاته، ومَنْ لم يستطع المشاركة وتقليده فيما يفعل فعليه أن يقف بكل احترام وأدب، ليبدو وكأنَّه مشارك في الصلاة.
وقد كان هناك ممثِّلون لأربعين دينًا، صلَّي كل منهم وفقًا لشعائره، ولم يتابع الجميع كل الصلوات؛ إذ كان يكفي إظهار الاحترام للصلوات للأديان المختلفة ولم تكن هناك ضرورة للمشاركة فيها. المهم جاء بعد ذلك دوري، وهذا يعني أنَّ عليَّ أن أشرح للمشاركين ركن الصلاة في الإسلام ثم أصلّي بهم الوقت القائم، وكان الوقت بعد العصر بقليل!! وهنا أسعفتني ثقافتي الأزهرية، فبعد أن بيَّنت مكانة الصلاة في الإسلام وفوائدها وشروطها وأركانها بشكل حاز إعجاب الجميع -فيما يبدو- ذكرت لهم أنني قد جمعت صلاة العصر مع الظهر لأنَّني مسافر، وتُكره عندنا الصلاة المندوبة بعد العصر إلى غروب الشمس، فإذا غربت يحين وقت المغرب، ومازال الوقت مبكرًا، فما رأيكم أن نقوم –معًا- في وقت صلاة الفجر وسوف أؤذن وأقيم الصلاة ثم أصلِّي أمامكم الفجر، وهي ركعتان فقط، ولكلِّ راغب في المتابعة أن يتابعني إذا وجد في نفسه الرغبة والقدرة؛ ولمّا وجدوا أنَّ ذلك سوف يكلِّفهم النهوض قبل موعد الإفطار بساعتين، همهم بعضهم بأنه سبق له أن دخل مسجدًا في بلاد المسلمين التي سافر إليها، ومَنْ لم يفعل قال: إنَّه سوف يزور المسجد أو المركز الإسلامي المجاور في مدينته بدلاً من الاستيقاظ في الفجر، وبعضهم قال: إنَّ صلاتكم تبدو أكثر نفعًا لأعضاء الجسم من اليوجا، قلت: ما دام الأمر كذلك فاسمحوا لي أن أقرأ عليكم بعض آيات القرآن المجيد وأشرح لكم معانيها ونكتفي بذلك، كما أنّني سأصلي المغرب والعشاء بعد دخول وقت المغرب، فمَنْ شاء فليتفضل بملاحظتي عند الصلاة.
تُرى لو لم أكن قد تخرَّجت في الأزهر، وأمضيت شطرًا من عمري بين المصريّين الطيّبين، لربما أخذت زوجتي وتوجَّهت إلى المطار عائدًا إلى منـزلي منذ الساعة الأولى، لكن المرونة الأزهرية، والروح المصريَّة المعتدلة، والنفس الصوفيُّ السنيُّ -الخالي من الابتداع- جعلني ذلك كله أتمثَّل قول الجيلي رحمه الله: “مَنْ نظر إلى الناس بعين الشريعة مقتهم، ومَنْ نظر إلى الناس بعين الحقيقة عذرهم”، وقد أعانني ذلك على تجاوز مأزق حرج، فلو كنت تخرَّجت في جامعة أخرى -مثل جامعات ما بعد استخراج ما كان في باطن الأرض- لما ذهبت أصلاً، وإذا ذهبت فربما اعتزلتهم غاضبًا منذ الساعة الأولى، وهنا لن أسيء لنفسي فحسب، بل أسيء للإسلام، وأظهره بأنَّه دين يرفض الأديان الأخرى، ولا يقبل بمبدأ التعدُّدية الدينيَّة، وأنَّه دين قوم ذوي نسق دينيٍّ مغلق، فإما أن تعتنق دينهم أو يرفضوك.
ولم يكن الأمر لدى المسلمين كذلك، لا في ماض ولا حاضر، ففي العصر العباسي كان القاضي الباقلاني(ت453) أهم العلماء الذين كانوا يُحاورون أهل الكتاب، وكان خلفاء بني العباس كثيرًا ما ينتدبونه لمثل تلك الحوارات، وأحيانًا يتلقّون دعوات من ملوك أوروبيين للدخول في حوار ديني، فيبعثون إليهم بالقاضي الباقلاني، أرسله أحد خلفاء بني العباس مرّة إلى ملك فرنسي ليُناقش مَنْ لديه من رجال دين، فأرادوا أنْ يختبروا صلابته، ويعجموا عوده، فاقترحوا على الملك أن يجلس في صدر قاعة تعمَّدوا أنْ يجعلوا بابها منخفضًا بحيث لا يستطيع الداخل لمقابلة الملك إلا أن ينحني راكعًا، وأرادوا بذلك أن يحملوا القاضي على الركوع والانحناء للملك، ففطن القاضي للأمر فدخل بظهره لا بوجهه، فكان انحناؤه إلى الخارج لا إلى الملك، وقبل أنْ يستقرَّ به المجلس فاجأه كبير الأساقفة بقوله: أيها القاضي، ما شأن زوجة نبيِّكم وبنت خليفتكم الأول التي رُميت بالزنا؟! فأجاب القاضي على البديهة: ذكر القرآن الكريم وكتب أخرى، امرأتين طاهرتين رُميتا بالزنا: إحداهما جاءت قومها بولد تحمله، والثانية لم تحمل ولم تضع، وكلتاهما طاهرتان، وكلٌّ منهما قد برَّأه الله تعالى، وهنا أطرق الجميع، وأدركوا أنهم أمام رجل لا يمكن أن يهزموه، وأخذ الحوار منحى آخر!! وقد ورث ابن حزم قدرات الباقلاني، بل تجاوزه.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
فكيف نتعلَّم أصول الحوار وآدابه دون استعلاء أو تنازل؟! لذلك حديث آخر.