أ.د/ طه جابر العلواني
قبل حوالي خمس وثلاثين عامًا أو تزيد قدِّر لي أن أزور بوركينا فاسو، وكانت تدعى آنذاك ﭬولتا العليا، وكنت في زيارة لمالي، وتبتعد واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو عن باماكو عاصمة مالي بحوالي ستمائة كيلو متر، ولكن الاستضعاف الفرنسي لأفريقيا لم يعمر شيئًا فيها، فكنا نرى ألذ أنواع المانجو والأناناس تتساقط على الأرض وتمتزج بطينها ثم تتعفن وينتشر البعوض والذباب وسائر الحشرات، في حين كان الفقر يسحق أبناء مالي والمنطقة كلها، ولا يجد هؤلاء الفقراء وسائل مواصلات تجعلهم قادرين على نقل هذه الخيرات الغالية الثمينة إلى أوروبا، كما لم يدع الفرنسيون في تلك البلاد مصانع لتعليب تلك الفواكه الثمينة وتسويقها معلبة، فكان مصيرها دائمًا إلى التعفن وتلويث الأرض، ومصير أبنائها الجوع والحرمان، والجهل والمرض، والوقوع تحت طائلة الخرافة والشعوذة والسحر، والسقوط أسرى بأيدي الدجالين والمشعوذين. فلما تقرر أن أزور بوركينا فاسو في رحلة استطلاع ندبتني إليها رابطة العالم الإسلامي -آنذاك- برئاسة الشيخ/ عبد العزيز بن باز -يرحمه الله-، وذلك بعد أن أبُلغ الشيخ ورابطة العالم الإسلامي بوجود متنبئ يدَّعي النبوة في ﭬولتا العليا، وأنَّ هذا المتنبئ مدعوم من ابن أخته الذي كان وزيرًا في حكومة ﭬولتا العليا، بوركينا فاسو اليوم، فذهبنا الفقير إليه تعالى يصحبني الدكتور عمر حسن فلَّاتة، فهو ابن المنطقة ويعرفها.
حين جئت أحاول الوصول بالطرق البريَّة لأقطع الستمائة كيلو متر من باماكو إلى واغادوغوا وجدت دون ذلك خرق القتاد، إذ كان أسهل من قطع هذه المسافة أن أقطع الربع الخالي مرتين أو ثلاث، ففرنسا الأنوار والتنوير لم تترك لا طرقًا ولا وسائل اتصال ولا مواصلات ولا وسائل تسويق، ولم تساعد هذه الشعوب على الأكل من خيرات بلدانهم، بل كانت مثل سارق أخذ من تلك البلدان ما يلذ له، وأحسن ما فيها، ثم تركها لمصائرها، ولجهلها وأمراضها، وتقطع أوصالها؛ فكان لابد من ركوب الطائرة لأصل إلى واغادوغو، فذهبت أسأل فلم أجد شركة إلا الفرنسيَّة تعمل على هذا الخط، فحجزت مقعدًا كلفني الكثير، ولقد سارت بنا الطائرة ما يزد على خمس ساعات طيران إلى باريس أولًا، ثم ركبنا طائرة أخرى من باريس إلى واغادوغو فقطعت المسافة في عدة ساعات كذلك، وكانت التكلفة عالية جدًا، المهم وصلنا في النهاية إلى واغادوغو، ولو أنَّ فرنسا كانت تريد أن تنشر حضارة لعبَّدت الطرق بين هذه البلدان، ولربطت بينها بشبكة اتصالات ومواصلات، ولكن كذلك يفعلون.
حين نزلنا مطار واغادوغو استقبلنا شاب من أفضل الشباب الذين عرفت في حياتي تدينًا ونشاطًا ورغبة في فعل الخير، فأخذنا إلى الفنذق الوحيد –آنذاك- في هذه العاصمة المتواضعة، وكان يحمل عنوان هلتن، ولكن ليس فيه من هلتن إلا الاسم، فالفندق دون النجوم، المهم كنا متعبين فنزلنا، وكنا متفقين مع مترجم وسائق سيارة ليأخذنا إلى القرية التي فيها المتنبئ، وبالفعل بعد صلاة الفجر مباشرة انطلقنا في طريق ترابي طيني، انهطلت عليه الأمطار فأصبحت أرضه كلها طينًا، يكون السائر فيها لا يستطيع إلا وهو يجازف بحياته، فالسيارة تذهب به يمينًا ويسارًا، وتنزلق هنا وتنزلق هناك، ولكن من فضل الله أن لم يكن على ذلك الطريق أيَّة سيارة غير سيارتنا وهي نصف نقل، كنا أربعة السائق والمترجم والدكتور فلَّاتة والفقير إليه تعالى، وصلنا إلى واد بعد مزنة من الأمطار شديدة وقد سال الوادي، فقال السائق: لا أستطيع أن أعبر هذا الوادي، ولا طريق إلى قرية “رحمة الله” التي فيها المتنبئ إلا عبر هذا الوادي، فلم يبق أمامكم إلا أن تقطعوه سيرًا على الأقدام. فاقترح صاحبي العودة إلى واغادوغو، والقيام بالمحاولة بعد يومين؛ فرفضت، وربطنا أحذيتنا على أكتافنا، واشتملنا بملابسنا، فعبرنا الوادي الذي كانت مياهه تصل أحيانًا إلى الركب وأحيانًا إلى الحزام.
المهم قطعنا الوادي وواصلنا السير، وبعد ست ساعات من السير المتواصل بلغنا قرية فيها ما يقرب من خمسين عشة، من العشش الأفريقيَّة المبنيَّة بالقش وشيء من الطين، فتلقانا دليل يعود إلى المتنبئ وقبيلته، فطلب منا أن نبدأ زيارة القرية بزيارة مسجدها، فاستمعنا إلى أذان لم نستطع أن نفهم منه إلا كلمتين أو ثلاث، وصلاة تعتبر صلاة المسيء صلاته خاشعة قانتة أمامها، ثم قادنا إلى منزل من الطين أيضًا لكنه واسع، وفيه عدَّة غرف، وأجلسنا وقال: إنَّ النبي رحمة الله -حيث كان اسمه رحمة الله- في خلوة الآن، ولن يخرج من خلوته إلا بعد أربعين يومًا، عندما يحين موعد المولد النبوي، فقلت لهم: إنَّنا لا نستطيع الانتظار، فأخبروه بأنَّنا قادمون من فرنسا، وقد أنفقنا مالًا كثيرًا تذاكر للطيران لكي نصل إليه، وسندفع له ما يمكن أن يعينه في شئونه إن استجاب لما نريد، وقبِل نصائحنا، وأخبرنا بما نحن في حاجة إلى أن نسمعه منه، فذهب دليلنا وعاد مستبشرًا، وقال: لقد وافق أن يخرج من خلوته بعد أن يقوم ببعض الأذكار ثم يأتي إليكم. جاء الرجل محدودب الظهر، يتوكأ على عصا غليظة، ومعه سبحة كبيرة، كل حبة منها تعدل بيضة –أم صفارتين- وكان يحمل الطرف الآخر منها رجلان، لثقلها وكبر حبَّاتها، فسلم الرجل علينا، وجلس على الأرض في مقابلتنا، ثم شرح له المترجم أنَّنا جئنا طلبًا للبركة، وقال له: بأنَّنا نتوقع الكثير من بركته، وكذب على المتنبئ وقال له: بأنَّ أحدهما يريد الخلف، والآخر لا أدري ماذا يريد، فاستمع إليهما. واعتدل الرجل، وبدأ يوجه بعض النصائح، وذكر فيما ذكر أنَّه قد قضى في مكة ثلاثة عشر عامًا، فأردنا أن نكلمه بالعربيَّة فنفى علمه بها، فالتفتُ إلى صاحبي وقلت له هامسًا: يعني إذا كان قد قضى كما يدَّعي ثلاثة عشر عامًا في مكة ولم يتعلم العربيَّة فهو مجرد حمار. ويبدو أنَّ الرجل سمعنا أو فهم ماذا همسنا به لبعضنا، فأبدى شيئًا من الغضب. فقال لنا: أنتم وهابيون فقلنا له: معاذ الله، لسنا وهابيين. فقال: هل قدمتم من السعوديَّة؟ قلت له: إن شئت أريناك تذاكرنا من باريس، فقد جئناك من باريس لا من السعوديَّة، ثم سألته: كم عمرك؟ قال: مائة واحدى عشر عامًا، قلت: وكم ولد عندك؟ قال عندي ما يزيد عن ثلاثين ولدًا، قلت: وكم امرأة لديك؟ قال احدى عشر، قلت: وما هي نبوتك؟ قال: إنَّني أحمل النبوة بين جنبي، قلت: وما هي معجزتك؟ قال: إنَّ هذه القرية حين أتيتها كانت تعبد الأصنام، فحولتها إلى الإيمان، وخلصتها من الشرك، وأعلنت لهم أنِّي نبيهم، ألم يقل القرآن الكريم: ﴿.. وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ (فاطر:24)، فأنا نذير هذه القرية، وتحولها من الوثنية إلى الإيمان هو معجزتي.
ثم أشار إلى رجلين حوله فقال: هذا عن يميني أبو بكر، وهذا عمر، ثم قال: يا أبا بكر ائتي بطعام الضيوف، فجاء بخروف حي وسلمه إليّ ومعه سكين، فقال لي: هذا غداءكم وضيافتكم -لم يخبرني أحد لا السائق ولا المترجم بتقاليد الجماعة، وهو أنَّهم يأتون بالخروف حيًا، وعلى الضيف أن يقوم بحز رقبته وتسليمه إليهم ليكملوا ذبحه وسلخة وطبخه- فأعدته إليهم، وقلت لهم: جزاكم الله خيرًا، لا تكلفوا أنفسكم، لكنَّنا جياع، ولابد لنا من أن نأكل، فأخذوا الخروف وانصرفوا، ثم لم يأتونا إلا بشيء من الماء خلطو به دقيقًا، شربناه على مضض لمكافحة الجوع والعطش بعد سير ست ساعات على الأقدام وست ساعات أخرى بسيارة نص نقل، وتحمل كل تلك المشاق.
ثم قال لأبي بكر: خذهما ليطوفا بالكعبة، فسألته: وهل انتقلت الكعبة أيضًا إلى هنا، قال: نعم، عندنا كعبتنا. فأخذنا أبو بكر بأمر نبيه إلى تلة رائعة في جمالها وجمال الطبيعة حولها وفيها غرفة مكعبة بنيت بالطين، فقال لي: هذه كعبتنا، قلت له: كيف صارت كعبة؟ قال: إنَّ الشيخ يختلي بها في كل سنة أربعين يومًا، تنتهي بذكرى ميلاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويحتشد هنا حول هذه الكعبة ما لا يقل عن عشرة آلاف إلى عشرين ألف من أتباع النبي، فيخرج لهم أولًا من الكوة ليسلم عليهم، ثم يخرج بعد ذلك ليلقي عليهم بتعليماته، وأشار إلى شلال لطيف قال: وذلك زمزم، وأمَّا المسعى فهو هذا الطريق الذي سرناه من منزل الشيخ إلى تلك الحجرة التي سمَّاها الكعبة، فقلت لصاحبي: يبدو أنَّ الرجل قد استكمل أدواته، وأخذ استقلاله الذاتي عن الإسلام والمسلمين، ولم يعد بجاحة إلى شيء إلا إلى هذا الإعلان عن نبوته وقد فعل.
وعدنا إلى المنزل، ووجدناه في انتظارنا، قال: كيف رأيتم؟ قلت له: يا شيخ أنت قلت بأنَّك سكنت مكة ثلاثة عشرة سنة، ألم تعلم أنَّ مكة بقعة محرمة غير قابلة للنقل ولا للاستنساخ؟ قال، لا، ولكن هذه البقعة كانت تعبد الأوثان بأهلها، واليوم تحتفل بمولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتعلي من قدره وشأنه وتعزره وتوقره، أفلا يكفي هذا لجعلها محجة يحج إليها الأفارقة الفقراء الذين لا يستطيعون دفع الأموال الطائلة التي يطلبهم بها سكان الحرمين الوهابيون، فتضاحكت وقلت له: هل كان هدفك الرخص؟ لو قدمت بالاشتغال بالطوافة وصرت مطوفًا في مكة، وتقدم خدماتك بشكل رخيص لكان ذلك أجدى من ادعائك النبوة، وتأسيسك لحرم “رحمة الله”، ألا تعلم أنَّ هذه الأمور لا يحق للبشر كافَّة ولو اجتمعوا أن يجعلوا بقعة من بقاع الأرض حرمًا أو محرمة أو مقدسة، وإنَّما ذلك لله وحده.
فاستشاط غضبًا، وقال: إن لم تنصرفوا أمرت بقتلكم، فأنت ترى أنَّ قريتنا نائية، وأنَّ كل من في القرية أبنائي وزوجاتي وأصحابي، فأقتلكم وأدفنكم دون أن يعلم أحد شيء عنكم، فنهض صديقي الدكتور فلَّاتة ونهض الآخرون وبقيت جالسًا، وقلت له: أول دليل على عدم نبوتك، وأنَّك لا تملك حتى أداب الضيافة، هذه الغضبة التي غضبتها، ألم تعدنا بأن نتناول معك طعام الغداء، وأن تركبنا عربة تعبر بنا الوادي إلى حيث تقف سيارتنا، قال: ليس لكم عندي شيء إلا السكين، فإمَّا أن تنصرفوا، وإمَّا الذبح، فأمسك بي الدكتور عمر وسائق السيارة وأنهضاني، ثم سرنا ونحن نحمل أسوأ الذكريات عن قرية “رحمة الله”.
وحين عدت إلى المملكة دعيت إلى اجتماع في الرابطة برئاسة الشيخ؛ لأقدم تقريري، فقدمت لهم تقريرًا موجزًا عن الرحلة، وهذا النبي الكذَّاب، ونبوءته، وما حدث لنا في الطريق، وفي تلك القرية.
تذكرت تلك الأحداث ووكالات الأنباء تتناقل الأخبار عن انقلاب بوركينا فاسو، واستيلاء الجيش على الحكم، والنزاع الدائر هناك، وفاتني أن أقول: لقد وجدت الخنازير تسرح وتمرح في واغادوغو كما لو كانت دجاجًا أو قططًا أو أي شيء آخر.
نسأل الله (جل شأنه) أن يقي المسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يكفينا شر أولئك الذين يتطلع بعضهم إلى لعب أدوار لا يصلحون لها، ولا يليقون بشيء منها، فهذا يتمثل بالصديق (رضي الله عنه)، وذلك يتمثل بعلي (رضي الله عنه)، وآخر يتمثل بالإمام الحسين (رضي الله عنه)، ورابع يتمثل برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). نعوذ بالله من هؤلاء كافَّة، ونسأله (سبحانه) أن يقينا وإياكم شرور هؤلاء، والفتن التي تظهر تباعًا كقطع الليل الداج.