(الحلقة الأولى)
د.طه جابر العلواني
عجيب أمر الحرية حين يعيشها الإنسان، ويحيا بها ويمارسها، ويُحاط بها في كل ما يأخذ ويترك، فإنها تفجر فيه طاقات لا حدود لها؛ ولذلك حرصت أمة الرسل والأنبياء كلهم على تأكيد حريَّة الإنسان، وحصر الألوهية والربوبية بالله الواحد الأحد الفرد الصمد؛ لئلا يتعالي البشر بعضهم على بعض، ويدَّعي بعضهم الألوهية والربوبية علي البعض الآخر -بسلطان أوتوه- كما حدث لفرعون حين قال مقالته الفاجرة: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ (القصص:38) وأكدها بمقولة أكثر فجورًا حين قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ (النازعات:24)، فكأنه أراد أن يقول: وإذا فرضنا أنّ لكم ربًّا سواي فأنا ربكم الأعلي.
ولا أريد أن أستطرد مع آثار التوحيد في بناء الحرية والتحرر؛ فلذلك حديث آخر، ولكنني أريد إبراز آثار قيمة الحرية باعتبارها قيمة عُلْيا تستند إلى التوحيد، وتقوم عليه، وتنبثق منه، فلا توحيد بدون الحرية ولا حرية حقيقية كاملة بدون التوحيد، فالتوحيد -بما يمنحه للإنسان من حريَّة- يُفجِّر طاقاته، ويطلقها في سائر المجالات،ثم يكون للإنسان الخيار، فإنْ كان إنسانًا حقًّا أطلق طاقاته في سائر المجالات الخـيِّرة النافعة، وإن كان منقوص الإنسانية، غير واعٍ بحقيقة ذاته، فقد تكون حريَّته وبالاً عليه. وإدراك معنى الإنسانية، والوعي بمفهوم الحرية، يمنح الإنسان -فيما يمنحه- روح المبادرة، وينمِّي لديه طاقة الإرادة والفاعلية، ومنها إرادة الإنجاز، ولأضرب لذلك مثلاً منذ عشرين عامًا أو يزيد: كنت قد تلقيت رسالة من مواطن أمريكي يعيش في نيويورك، أبدى فيها رغبته الملحَّة في أنْ يلقاني في مكتبي في واشنطن في أي تاريخ أحدده، والتقينا، كانت معه زوجته، كان الرجل في عامه السبعين أو يزيد، وزوجته في حدود الستين، بادرني بتقديم زوجته ونفسه، وقدَّم لي سيرة ذاتية مكتوبة له ولها، كلاهما ينتمي إلي المجال التربوي، وقد عملا في التربية والتعليم فترة طويلة إلى أن بلغا سنَّ التقاعد، ثم ذكر الرجل أنَّه قد خطَّط مع زوجته ما سيفعلانه بعد التقاعد، وأن خطَّتهما تلخَّصت بتأسيس جمعية تربوية عالمية تسعى لتربية الوعي على ضرورة إحلال السلام بين الشعوب، فعالم اليوم يعيش في شقاء في الحروب والصراعات والمنازعات على اختلاف أنواعها، وتلك الحروب والصراعات والنـزاعات قد حرمت البشرية من التمتع بثمار تقدُّمها وما حقَّقه العلم لها من إنجازات.
وإنَّ من بين عوامل تلك الصراعات والحروب والمنازعات -على اختلافها- الدين، تصوَّر أنَّ الدِّين الذي جعله الله وسيلة سلام وأمان للبشرية حوَّلته الانحرافات الإنسانية إلى وسيلة من وسائل الصراع والنـزاع، وهذا يُوضِّح لنا مدى حاجة البشرية الملحَّة إلى الجهود التربويَّة التي تساعد البشرية على الخروج من أزماتها ومآزقها، وقد اتصلت -والكلام لا يزال للرجل- بكثير من المؤسسات الدينية في أمريكا، فرحَّبوا بالفكرة، وحين اطّلعت على برامجكم، وأن مؤسستكم تنتمي إلى الإسلام، ويقوم على إدارتها مسلمون فقد قررت الاتّصال بكم، وعرض الموضوع عليكم، لعلَّه يجد قبولاً لديكم، لأنّني أتمنى أن تتعاون سائر المؤسسات الدينية في أمريكا معنا في هذا الموضوع، وقبل أنْ يختم حديثه قال: “وقد اتصلنا -زوجتي وأنا- بالأمانة العامة للأمم المتحدة، فرحَّبوا بالفكرة، ووعدوا بدعمها بكل ما يستطيعون”.
وبعد أن أفقت من دهشتي، وإحساسي بالصدمة التي وراءها كل الإرث الثقافي الذي أحمله، قلت، بعد الترحيب وعبارات المجاملة المعهودة: “إنَّ الفكرة بحدِّ ذاتها مهمة جدًّا وطموحة جدًّا، لكنَّها تحتاج إلى وضوح أكثر في الأهداف والوسائل والإطار الزمني، وهل ستفي جهودكما -أنتما الاثنين- بمتطلبات هذا المشروع العالي الطموح؟” فأجابا: “إنَّنا قد أسَّسنا المؤسسة، وبلورنا الفكرة الأساسية، وقدَّمناها لمؤسسات تمثِّل اثنين وأربعين دينًا من الأديان المنتشرة في أمريكا، والتي لها أتباع فيها، ووجدنا قبولاً لدى الجميع، كما وجدنا قبولا مبدئيًّا لدى الأمم المتحدة لتبنِّي المشروع، ولم نجد أحدًا يُعارض فكرة جعل الأديان وسيلة سلام عالمي، وأمان لجميع أهل الأرض، ونزعها من أيدي أولئك الذين يعملون علي استغلالها وجعلها من وسائل تغذية الصراعات والحروب والمنازعات بين البشر، وإعادة الأديان إلى طبيعتها باعتبارها وسائل سلام وأمان وطمأنينة بين البشر، ونحن نعتقد أنَّ في الإسلام جوانب كثيرة يمكن أن تعزِّز هذه الفكرة وتدعمها، ونأمل ألا تتخلَّفوا عن الانضمام إلينا في هذا المجال”.
فوعدتهما بدراسة الموضوع والردِّ عليهما بعد التشاور مع زملائي في المؤسسة، ثم ودَّعتهما وانصرفا، وتركاني مع مئات الأسئلة الحائرة في ذهني، منها: كيف يمكن لمن هما في مثل هذه السن المتقدمة أنْ يفكِّرا بمشروع طموح طويل المدى مثل هذا؟ إنَّ مَنْ يخرج إلى المعاش في ثقافتنا يعني أنَّ دوره في الحياة قد انتهي، وأنَّه لم يعد أمامه إلا انتظار الزائر الأخير: ملك الموت!! من أين واتتهما الجرأة والإرادة على الانخراط في مشروع مثل هذا؟ وما الذي يجعل عجوزين -كمَنْ رأيت- يفكِّران في أعقد مشاكل العالم المعاصر ويُكلِّفان نفسيهما بالبحث عن حلول لها؟ ثم قلت لنفسي: أظنُّهما حالمين فقط، ولن يستطيعا فعل الكثير!! ولم تمض سنة واحدة حتى تسلَّمت دعوة لحضور مؤتمر كبير في أحد الأديرة التاريخية في نيويورك للبحث في تشكيل منظَّمة للأديان المتحدة، وأنَّه سيشارك فيه ممثلون لأربعين دينًا من الأديان الموجودة في الولايات المتحدة والعالم، وأنَّ المؤتمر سوف يحظي بدعم الأمم المتحدة، وإذا بحلم هذين الزوجين يتحوَّل إلى حقيقة واقعة، وبعد تشاور وتفكير قرَّرت حضور اللقاء، وهيأت نفسي لسائر الاحتمالات، وشددت الركاب إلى ذلك الدير التاريخي الجميل في ضواحي نيويورك، وكانت المفاجأة كبيرة حين وجدت الرجل قد توفي قبل أن يرى ثمرة جهوده، وأن من قاد جميع الجهود التي بُذلت هي زوجته، وفاءً لذكراه، بناءً على إيمانها، فكيف سار ذلك اللقاء العجيب، وكيف انتهى بتأسيس منظمة الأديان المتحدة، وما الخطوات التي أعقبت ذلك؟ هذا ما سأتناوله في مقال آخر بإذن الله. ولنتذكَّر دائمًا أنَّ الحرية هي أمُّ الإنجازات.