أ.د/ طه جابر العلواني
المنهج القرآني منهج صارم في ضبط كل ما يندرج تحته، وضبط جميع أنواع المعارف التي اشتمل الكتاب الكريم عليها، وهو عاصم للأذهان من الوقوع في الخطأ أو الظن، أو الخرص والتخمين أو التيه والضلال، وبالتالي فإنَّه منهج لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. حين يتناول مقدماته فإنَّه يزنها بأدق الموازين، ويخضعها لأشد المقاييس صرامة واعتدالًا للتثبت من كل شيء، فهو خلافًا للمناهج الأخرى التي قد تضبط جانبًا وتنحرف في جوانب أخرى؛ ولذلك فإنَّ من يتبنى هذا المنهج ويخضع إليه قضايا معرفته فإنَّه يكون في أمن تام من كل مضادات المنهج، ونواقض مقدماته، والمؤثرات السلبيَّة على نتائج عمله.
يبدأ المنهج القرآني أول ما يبدأ: ببيان مرجعيَّته، وضرورة اليقين بأنَّ هذه المرجعيَّة للمنهج مرجعيَّة سليمة مستقيمة لا تفرط بشيء، وتوصل إلى البرهان واليقين والدليل، الذي لا يزيغ من أخذ به، يبدأ المنهج بالتوكيد على أنَّ مصدره كتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كتاب يأتي باليقين، والحجة، والبرهان، والأدلة التي لا يمكن النيل منها بالخرص، والظن، والوهم، والسفسطة، والشبه، وما إلى ذلك، فضلًا عن نقض تلك الأدلة والبراهين التي يأتي بها، وحين نقرأ الكتاب الكريم، ونقرأ صفاته، وأنَّه لا ريب فيه، وأنَّه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا، وأنَّه لا يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه، إضافة إلى ما يقرب من أربع وخمسين صفة توصلنا إلى اليقين بسلامة المرجع، وهو أمر في غاية الأهميَّة، لم تلتفت إليه المناهج البشريَّة والوضعيَّة بشكل ملائم.
ثانيًا: يمنحنا الثقة بمن تلقى ذلك المنهج، والمرجع الذي يحمله، ألا وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي يعتبر إثبات صدقه وعصمته وحفظ ما أنزل على قلبه وحفظهما معًا بتلازم تام عصمة أخرى للمنهج على مستوى تلقيه، وعصمة ذلك التلقي، حتى تصبح عمليَّة الثقة بالمصدر والمتلقي ثقة مطلقة، لا يمكن النيل منها، وهذه الثقة تجعل كل ما انتسب لهذا المنهج أمرًا من قبيل المسلمات اليقينيَّة التي لا يقبل النيل منها، ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾ (الطلاق:10-11)، بحيث ساغ أن يجمع بين الرسول والذكر في مستوى دقة تلقي المنهج وسلامة محدداته.
ثالثًا: نجد إحصاءً دقيقًا لكل ما يعزز المنهج ويمنحه العصمة والصرامة والقدرة المطلقة على إثبات مقدماته، وتحويلها إلى مسلمات، والوصول بعد ذلك إلى نتائج لا ينازع أحد في سلامتها ودقتها واتخاذها مسلمات كذلك، فقد بين لنا ما هو علم وما هو ظن، وما هو خرص وتخمين، وشك وامتراء وأوهام، وفي الوقت نفسه بين لنا سبل الوصول إلى عين اليقين، وعلم اليقين، وبرد اليقين، والعلم والبرهان والحجة والدليل، وكل ذلك في شكل ظاهر بيِّن، لا امتراء فيه، ولا يمكن أن ينخرم في أيَّة مفردة من مفرداته أو حلقة من حلقاته.
وبما أنَّ القرآن المجيد كتاب هداية واستخلاف، مهمته هداية الخلق لتحديد مقاصد الخالق وغاياته مما خلق وممن خلق، فقد انصب المنهج في محدداته كلها على بيان مختلف العلاقات بين جميع عناصر الخلق، وبيان المواصفات والصفات والأعمال التي يمكن أن تؤدي باتباع ذلك المنهج القويم إلى تحقيق الغاية وبلوغ العمران، وتحقيق المقاصد بشكل دقيق وكامل، دون خوف من نسيان شيء وما كان ربك نسيا، أو تجاهل شيء أو عدم الإحاطة بشيء إذ إنَّ الله (جل شأنه) قد فصل ذلك المنهج والكتاب الذي يحمله على علم ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف:52)، ويمتاز المنهج القرآني بأنَّه لم يحصر جهوده وفاعليَّة محدداته بالفعل الإنساني وآثاره، بل تجاوز ذلك إلى الإنسان نفسه، وجميع أصنافه، وإلى بيئته وزمانه ومكانه، فكل ذلك أعطاه المنهج نصيبه، ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ (الأعراف:58).
والناس أصناف صنف لم يعد أصلًا للإتيان بالعمران؛ لأنَّه يفتقد الاستعدادات والقابليَّات والقدرات التي تسمح له بأن يكون عنصر عمران وبناء، وتحقيق غايات استخلاف، فهو بطبيعته وإمكاناته أعد لشيء آخر، أعد وهو يحمل نفسًا غلبت عليها اتجاهات العنف والاستعلاء في الأرض والإفساد فيها، وهؤلاء تحكمهم سنن وقواعد فرضها المنهج منها: ﴿.. إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (يونس:81)، ﴿.. إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (القصص:50)، ﴿.. لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة:124)، ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (القصص:83)، ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج:41).
فإذا كلفنا المنهج بالنظر في خطة تنمية على سبيل المثال، فإنَّ المنهج سوف يتناول كل هذه الأصناف من البشر ليحدد لنا من يصلح للفلاح والتزكية وتحقيق التنمية، ومن لا يصلح لإقامة حياة طيبة في هذه الحياة الدنيا، ويغلب عليه كل ما وضع على جادة أو طريق مستقيم أن ينحرف يمينًا أو يسارًا ليدخل في إطار الإفساد، وهكذا يسير المنهج معنا خطوة خطوة، ليبين لنا منهج معرفة الأرض وتمييز ما يصلح منها للعمران وما لا يصلح، ومنهج معرفة الإنسان وتمييز من يصلح للقيام بالمهام العمرانيَّة والاستخلافيَّة ومن لا يصلح لشيء من ذلك، ويستمر المنهج القرآني في هدايته للتي هي أقوم، وتجنيبنا ما هو منحرف في كل شيء، ويبين لنا كيف يظهر الفساد في البر والبحر، وإذا ظهر فلابد من التخلية، وإصلاح الفساد في البر والبحر والجو، فذلك سبيل تحقيق غايات الاستخلاف والعمران، والمقاصد العليا الحاكمة.
من هنا فلا نخشى خطرًا أن نكتشف في المنهج خللًا يمكن أن يؤثر آثارًا سلبيَّة في النتائج، فالمنهج نفسه قد عصم بسائر محدداته من كل دواعي وعوامل الانحراف في الإنسان، والأرض، والمحيط، والبيئة، والأجواء، والفضاء، وهنا يكون البحث دائمًا عن الحق الذي أودعه الله في السماوات والأض ما خلقناهما إلا بالحق، ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الدخان:38-39) والحق الذي أودعه في الوحي الذي أنزله على رسله، فتستقيم الحياة، وتنضبط شئونها، وتؤدي إلى النتائج المطلوبة.
رابعًا: لابد من النظر في أنَّ هذا المنهج يسعى إلى تحقيق الاستعدادات لنجاحه في سائر المتعاملين معه، وفي بيئتهم كما ذكرنا، وكل ما يتصل بالاستخلاف والعمران؛ لأنَّه منهج كامل لا يتقبل أن يصيبه خلل ما في أي محدد من محدداته أو مرحلة من مراحله، فهو يعمل ويحقق أهدافه بالطريقة الكاملة ذلك هو شرطه الأساس لنجاحه فيما يعمل.