Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

بين تكسير القلم وتكسير المغزل

أ.د/ طه جابر العلواني

كلما كتبت شيئًا عن العراق والفتن الطائفيَّة فيه، وكيف عمقت الفُرقة بين طائفتي السنة والشيعة، بحيث لم يعد بعد تلك الجهود للطائفيين السياسيين من العراقيين أي مجال لتفاهم أو لقاء أو مد جسور تواصل بين الطائفتين، وكأنَّ أعداء العراق قد قرروا أن يوجدوا حواجز في القلوب والنفوس، لا تسمح بعودة الصفاء إلى هاتين الطائفتين اللتين عاشتا في هذه البلاد منذ قرون عديدة، منذ خلافة الإمام علي (كرم الله وجهه، ورضي عنه وأرضاه)، وكانوا كلما نشب بين الطائفتين خلاف أو نزاع سرعان ما يقوم أهل العلم والرأي من المراجع والعلماء بإطفاء نيران الفتنة وإخماد أسبابها، وعزل مثيريها عن التأثير في الجماهير من الطائفتين؛ ولذلك عاشوا كل هذه القرون لم تنهِ طائفة منهما الأخرى.

وكثير من العوائل قد تداخلت بطريق الزواج، وأصهر شيعة إلى السنة، وسنة إلى الشيعة، وهناك قبائل تجد نصفها من الشيعة والنصف الآخر من السنة، ويتصل الفريقان في مختلف المناسبات ويشتركان في أداء الديات التي  تفرض على القبيلة أو العاقلة، وبالتالي فما كان أي من الفريقين يخطر على باله استئصال الطائفة الأخرى، صحيح أنَّ في ثقافتنا الشعبيَّة بعض الأمثال والحكايات الدارجة لكن الفريقين لا يرون أنَّ ذلك التراث الثقافي ذو أثر فيهم.

فمن الشتائم المعروفة في تراثنا العراقي، والتي نتداولها سنة وشيعة على سبيل النكتة، قول بعض الغلاة من عوام الشيعة لمن يشتمه: “عظم سني بگبر أبيَّك” وقد يقول بعض السنة هازئا: “عظم شيعي بگبر أبيَّك”، وكذلك القصص التي يتبادلها الاثنان كأن يقول السني: “الشيعي إذا مات ينقلب خنزير”، ويردها الشيعي بمثلها. ولكنَّهم رغم ذلك عاشوا معًا، وحاربوا المحتلين وأخرجوهم معًا، وقاتلوا أعداءهم معًا، وما تمكَّن المستعمرون من دفعهم إلى التقاتل وتشريد بعضهم البعض، وانتهاك بعضهم حرمات بعض، لكن الطائفيَّة السياسيَّة في هذا العصر استطاعت أن تدق بينهم كل أسافين البغضاء، وأوصلتهم إلى مستوى قتل بعضهم بعضًا، وتشريد بعضهم بعضًا، وانتهاك الحرمات والأعراض فضلًا عن الأموال والممتلكات.

 ولو علم هؤلاء جميعًا أنَّ الأيام دول، وأنَّ أيًّا من الطائفتين لن تبيد الطائفة الأخرى، ولن تقضي عليها قضاء تامًا، لا بالقتل، ولا بالتشريد، ولا بسلب الديار، وتفريغ المدن والقرى من أهلها؛ لعلموا أنَّهم إنَّما يقتلون أنفسهم قبل أن يقتلوا أبناء الطائفة الأخرى، فالله (تبارك وتعالى) اعتبر القاتل لغيره بمثابة القاتل لنفسه، فقال (جل شأنه): ﴿.. وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ .. (النساء:29)؛ لأنَّ القاتل لابد أن يُقتل، ومن يشرد الناس لابد أن يُشرد، ومن ينتهك حرمات الناس لابد أن تنتهك حرماته، فالقتل ديْن، والزنا ديْن، وتخريب الديار ديْن، ونفي الناس وتهجيرهم ديْن، ولابد أن ترد الديون يومًا ما من الأيام، فمن قتل يقتل ولو بعد حين، ومن شرد الناس فسوف يشرد ولو بعد حين، ومن هجَّر الناس بدون ذنب سوف يُهجَّر ولو بعد حين.

 ذلك ما نادينا به، وذلك ما حاوله جيلنا في الستينيَّات، فإذا كنت اليوم أسائل قومي وأهلي في العراق من سنة وشيعة بأن لا يصغوا للطائفيين السياسيين، ولا يستمعوا إليهم، ولا ينبغي أن يولوهم أمرهم؛ فإنَّني لا أريد بذلك إلا المساعدة بالكلمة على بناء وعي يعين على حقن الدماء، دماء أبناء الطائفتين، وحماية الأعراض والقيم والممتلكات، وإبقاء الناس في ديارهم دون تهجير أو تشريد تحت أي حجة من الحجج.

 إنَّما فعلت ما عشنا عليه، شيعة وسنة، فقد قاومنا المد الأحمر الشيوعي في الستينيَّات معًا، شيعة وسنة، واجتمع علماؤنا معًا، وكافحوا معًا، حتى أوقفوا ذلك المد، الذي كان على وشك أن يجعل العراق منذ العام 1959 دائرًا في فلك الاتحاد السوﭬـيتي ذيلًا له، ومثلي في نداءاتي هذه -التي يبدو أنَّ الكثيرين لا يريدون الاستماع إليها- مثل الإمام أبي حامد الغزالي الذي قال: “غزلت لهم غزلًا دقيقًا فلم أجد لغزلي نسَّاجًا فكسرت مغزلي” فهل يريد الطائفيّون منا أن نكسر أقلامنا؛ لأنَّها بدأت تزعجهم؟

 لن نفعل -إن شاء الله- وستندحر الطائفيَّة بكل أشكالها، وستنتصر عليها قيم الانتماء إلى الأمَّة الواحدة، والصلاة إلى القبلة الواحدة، واتباع النبي الرسول الواحد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتمسك بالقرآن الواحد، ذلك كله -إن شاء الله- سوف يوقف هذه الانحرافات الطائفيَّة، ويضع السدود أمام ذلك المد حتى يغيض ماؤه، وتنهار قواه -إن شاء الله- وما ذلك على الله ببعيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *