Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

معالم في المنهج القرآني الحلقة الثانية

 

أ.د/ طه جابر العلواني

محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول الله، وخاتم النبيين، وفي الوقت نفسه يعلن أنَّه بشر، فالصفات الثلاثة: البشريَّة، والنبوة، والرسالة، تعيش في الحقيقة المحمديَّة متجاورة متضافرة متداخلة لا يمكن فصل واحدة منها عن الصفتين، فهو بشر ونبي في كل لحظة من لحظات حياته بعد البعثة.

كانت مهمته تتلخص في مجموعة معالم منهجيَّة، فهو:

 أولًا: يتلقى القرآن الكريم ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ (النمل:6).

ثانيا: يتلقى القرآن وهو نازل على قلبه مباشرة ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (البقرة:97)، فموقع التلقي هو القلب، ويسره بلسانه ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ (مريم:97)، وتولى عنه كلَّ ما قد يجعل البشر ينشغل به عندما يعثر على نص نفيس، يعرف له قيمته وقدره، ويخشى أن يتفلت شيء منه أو يُنسى، فيقول له ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (الأعلى:6) ويقول له ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ﴾ (القيامة:16-18) ولا تسمح لعقلك أن ينشغل بالبحث عن معانيه وهو يتنزل على قلبك ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ لتعجل بحفظه وجمعه في قلبك ووعيك ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ﴾ فقط لأنَّ أهم ما يقتضيه التلقي الوعيَّ بالمقروء عليه، ثم ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (القيامة:19) لا تحمل همَّ البيان فنحن من سيبينه ونحن من سيحفظه ويقرئك إياه ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر:9).

 وهنا تصبح عمليَّة التلقي عمليَّة لها حدودها وأبعادها بوضوح شديد، ثم يأتي بعد ذلك دور المتلقي الأول في بناء أمَّة التلقي وإيجاد الملة فيقول الله (جل شأنه) ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل:44)، فمهمتك أن توصِّل للناس هذا الذي أوصلناه إلى قلبك بمثل المنهج والطريقة التي تلقيت بها، فأنت أول المتلقين والموصل إليهم جميعًا، وهنا يطمئن النبيَّ فيقول له ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (المائدة:67)، وفي آية أخرى يقول له ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ (الشورى:48)، فأنت مسؤول عن بناء أمَّة من المتلقين يتلقون عنك كما تلقيت عنا، ويقرأون عليك ما أقرأناك، وتتلو عليهم ما تلونا عليك، وهنا يتم التلقي المنهجي الذي تحيط به الضمانات من كل جانب، فلا يفلت منه شيء، ولا يضيع منه شيء.

 وهذا المنهج كان ينبغي أن يستمر في سائر أجيال هذه الأمَّة بحيث يتلقى كل جيل عن الجيل الذي سبقه القرآن كما تلقاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الله (جل شأنه)،  وبذلك توجد أمَّة المتلقين وتنبثق ملتهم، وتكتمل هدايتهم فلا يُخشى عليهم من شيء أبدًا، وتكتمل وحدتهم ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (الأنبياء:92)، ولا يتطرق إليهم انحراف. وحين التفَّ قادة جيل التلقي حول سريره )صلى الله عليه وآله وسلم(، وهو يجود بنفسه، سألوه سؤالاً عتيدًا: ماذا نفعل بعدك؟ فقد كنت المنهج، وقد كنت المرجع، فإذا غبت عنا فهل نفقد المرجع والمنهج؟ وما البديل؟ فأجاب جوابه الخالد: “تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا كتاب الله” ، وهذه هي الرواية الصحيحة؛ لأنَّ جميع الإضافات التي أضافها الآخرون حيث أضاف الشيعة (وعترتي، وأهل بيتي) وأضاف غيرهم (وسنتي)[1] وأضاف آخرون (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، كل تلك إضافات لا تصح ولا تصدق، بل هي مثيل لتلك الانحرافات التي يسقط فيها أتباع النبيين بعد غيابهم عنهم أو أثناء وجودهم وإلا فما الذي جعل النصارى يقولون المسيح ابن الله، واليهود يقولون عزير ابن الله، وجاء المسلمون ليضموا العترة والسنة والصحابة وما شاؤوا أن يضموا.

إنَّ الله قد خاطب السيد المسيح وقال له ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ (المائدة:116-117) فنفى أنَّه قال ذلك، وسيُسأل موسى (عليه السلام) وينفي أنَّه قال يومًا لبني اسرائيل (عزير ابن الله)، وسيسأل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيؤكد أنَّه لم يقل للناس (عترتي، وأصحابي كالنجوم، وسنتي)، ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله واتقوه بهذا القرآن، وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، في ذلك اليوم سينكشف الصدق ويبين الله (جل شأنه) للناس الذي كانوا يختلفون فيه، وسوف يكتشف الضُّلال أنَّهم قد ضلوا عن سبيل الله، وتاهوا عن الجادة، وسقطوا في الهاوية وما كان لهم أن يفعلوا.

 إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مثَّل للأمَّة أمَّةَ التلقي طيلة حياته النبويَّة التي استمرت اثنتين وعشرين سنة، وخمسة أشهر واثنين وعشرين يومًا المرجع والمنهج ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (النساء:83)، فلما انتقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الرفيق الأعلى، أنكر الناس قلوبهم قبل أن ينفضوا تراب قبر رسول الله عن أيديهم، وأحسَّ كثير بالضياع، وبدأت كوامن الرغبة بالخروج عن نظام الملة الذي أرسى دعائمه، ثم الخروج عن منهج التلقي واستبداله بشتى المناهج، ولما فوجئ من بقي من الصحابة أنَّهم بدأوا يسيرون في طريق مظلم، وسلكوا سبيل الفتن المختلفة، بدأ الناس يظنون أنَّ بالإمكان الاستعاضة عن النبي بوصفه المنهج؛ بجمع كل ما أُثر وكل ما قيل وكل ما ذُكر ونُسب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لعلّ ذلك يكون بديلاً مناسبًا عن المنهج النبوي، ومرةً ثانية يُخطَأ المنهجُ ولا يصل إليه إلا القليل، فقد كان المنهج وما يزال هو منهج التلقي لتلقي القرآن الكريم، ونقله من جيل إلى آخر، وفقًا للمعالم والخطوات التي ذكرناها، ولم يكن المنهج جمع تلك المفردات والجزئيَّات، والنظر إليها باعتبارها بديلاً عن المنهج، فالبديلُ المقترح نفسُه عوض أن يأتي بالحل؛ قدَّم إشكاليَّاتٍ جديدة، هي إشكاليَّة كيفيَّة تصحيح هذا الكمّ الهائل من الآثار والمرويَّات، وتوثيق أو تضعيف الرجال الذين رووها، وكيف يمكن الثقة بهذه المرويَّات التي ترويها طوائف، قد تفرقت كلمتها، وتشتت شملها، وأصبحت أحزابًا ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ (المؤمنون:53).

 فبدلاً من العودة بالرد إلى الأمر الأول، والبحث في منهج التلقي والاعتصام بالكتاب من جديد الذي أعطاهم ضمانة أنَّهم لن يختلفوا ما داموا معتصمين به، استمروا في ابتكار الحلول التي تأتي بها عقولهم واجتهاداتهم ومنطقهم؛ فظنوا الفقهَ وأصولَه بديلاً عن المنهج -منهج التلقي- فكرَّسوهما، وتنادوا إلى جمع الأصول وبناء الفروع عليها، وبعدت الشقة تمامًا بين المنهج وأصحابه، وصار بين الأمَّة ومنهج التلقي مسافات شاسعة، وعقبات كثيرة، والأمَّة تتردى من ظلمة إلى ما هو أشد منها، حتى وصل الحال بنا إلى فقه هذه الطوائف المنحرفة، فقه القاعدة، وداعش، وقد سبقها فقه كثير وأصول أكثر، وسيلحقها –والله أعلم– فقه وفقهاء وأصول وأصوليون وأخبار وإخباريون، ولن تخرج هذه الأمَّة من دوامات الفتن ومضلات العقول إلا بالعودة إلى ذلك المنهج.

 فإذا ثبت منهج التلقي واتضح نهجه، وظهر طريقه، فكيف يسلكه السالكون؟

 الكتاب الكريم بفضل كل العواصم التي أحاطه الله بها ما يزال بفضل الله بيننا، شاهد علينا بالحق، ناطق عن ربنا، مبلغ عنه بما يقطع كل ريبة في أي شيء منه، فما منهج تلقيه بعد أن حصلت قطيعة معه عبر كل تلك العصور؟ هذا المنهج أشارت إليه الآية الكريمة ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (المائدة:48)، وأشارت إليه آيات أخرى بألفاظ تحمل معنى المنهج والطريق والطريقة وما إلى ذلك.

المعلم الأول من معالم هذا المنهج عندي: إعادة النظر في العلاقة بين لسان القرآن الكريم واللسان العربي[2].

 فالقرآن حين نبه إلى هذه الصلة نبه إلى لسان عربي مبين، فهو لسان عربي وهو مبين في الوقت ذاته، إذن فلسان القرآن المجيد لسان عربي مبين، مبيَّن واضح بذاته مبيِّن لغيره، لا يخضع لأيَّة قوانين وقواعد تأتي من خارجه لتهيمن عليه؛ لأنَّ القرآن هو صاحب الهيمنة المطلقة، وهو الذي يصدِّق على غيره ولا يصدِّق شيء عليه غيرُ نفسه، وكل ما أضافه العرب وعلماؤهم من روايات في اللغة واللسان يهيمن القرآن المجيد عليها ويصدق، وكل ما قرروه من قواعد نحويَّة وصرفيَّة وبلاغيَّة وبيانيَّة يصدق القرآن عليها ويهيمن.

 وإذا تم ذلك نستطيع القول بأنَّ لسان القرآن نزّه نفسه عن التكرار والترادف، والإبهام، والكنايات، والتوريات، والاشتراك، وكثير من الاستعارات، وأنواع المجازات، وإذا نطق القرآن الكريم بشيء فالمقياس ما نطق به لا ما ذكره النحاة واللغويون، والمفروض أن يُعتمَد لسانُ القرآن في بناء كل تلك القواعد اللغويَّة والنحويَّة والصرفيَّة، لا العكس، فلا بد من تحديد دقيق لعلاقة لسان القرآن باللسان العربي؛ لأنَّ المنهج يقتضي الانضباط، فمهمته أن يعصم الإنسانَ عند النظر عن السقوط في الخطأ، وعند الفكر والتوليد المعرفي كذلك، فإذا أعيدت عمليَّة بناء العلاقة بين لسان القرآن واللسان العربي على قواعد سليمة يلاحَظ فيها تحديه للعرب وتدرَس فيها أساليب القرآن وعاداته؛ انتقِل إلى الحلقة الثانية من مكونات المنهج القرآني. وهي:

المعلم الثاني: حلقة الجمع بين القرائتين.

بعد أن نكون قد أكملنا بناءَ القراءة على أمتن الدعائم وأقوى الأساليب، ونعني بالقراءتين قراءة الكتاب المنزل والكتاب المخلوق (الكون) ، فالكون ما خُلق إلا بالحق، والقرآن ما أُنزل إلا بالحق، وافتراضُ أي تناقض بين ما ورد في القرآن مع ما ورد في الكون يعد من قبيل الخروج على المنهج والتفريط به وتجاهله، فلا بد من الجمع بينهما، وإذا كان الكون تحكمه سنن وقوانين وقواعد ثابتة، تجعل منه وحدة متماسكة لن يختل نظامها إلا حين يرث الله الأرض ومن عليها؛ فإنَّ القرآن المجيد تجمع بين آياته وحدة بنائيَّة لا تسمح بوقوع تناقض أو تعارض أو تنافي أو ناسخ ومنسوخ أو مجمل ومبين وما إلى ذلك من قوانين وقواعد انبثقت عن تصورات بشريَّة للإجابة عن أسئلة بشريَّة، فالوحدة البنائيَّة إذن الحلقة الثالثة من حلقات المنهج القرآني.

التصديق يمثل الحلقة الرابعة من حلقات المنهج القرآني، وذلك لأنَّ من شأن المنهج أن يعصم الذهن عن الخطأ في التفكير، ويحفظ النظر عن الخطأ عندما يمارسه الناظر وهو يؤلف مقدماته السليمة للوصول إلى نتائج مستقيمة؛ فإنَّ عمليَّة التصديق تقوم بالضبط بمثل هذا الفعل المنهجي، فهي تتابع الناظر أو المفكر أو المجتهد وهم يمارسون أعمالهم الاجتهاديَّة ونظرَهم؛ لتحفظ هؤلاء من السقوط وهم يؤلفون مقدماتهم للوصول إلى النتائج التي يقصدونها، فلابد للتالين للقرآن الكريم المتدبرين له من المهارة في كيفيَّة التصديق بالقرآن على كل ما عداه، فالقرآن يرفض كلَّ ما ليس صحيحًا من الأخبار، وكلَّ ما ليس صحيحًا من المنقولات والمأثورات والمسموعات، فما دامت قد تعارضت معه فذلك يعني أنَّ المنهج القرآني يأبى قبولها، والإقرارَ بصحتها والمصادقةَ عليها، فتحذف من إطار القبول، ولا يترتب عليها أيَّة معرفة صادقة، وإذا لم يصدِّق عليها – كرواية – فإنَّه يسقطها لو جاءت باعتبارها معرفة مدعاة أو علمًا يدعي علميتَه المدعون، وبالتالي فإنَّه يطلب البرهان على كل ما يراد إدراجه تحت مفهوم العلم أو المعرفة المقبولة، وما لم يبرهَن عليه ألحق بالتخرصات والظنون المرفوضة، ولا تتم الهيمنة القرآنيَّة عليها، فالقرآن يصدِّق على ما يُروى إذا ثبتت صحته وقام الدليل عليها، وعلى ما تُدعى علميته إذا ما قام البرهان على علميته وصدق انتسابه إلى العلم أو المعرفة الصحيحة، وآنذاك يهيمن عليه، فيصبح جديرًا بالانضمام إلى دائرة العلم والمعرفة الإنسانيَّة الموثقة، ويتم استيعابه بحسبه، وترقيته ليحدث بعد ذلك التجاوز، وتحقيق مقاصد العلم ومقاصد المعرفة وغاياتهما، ومقاصد العلم والمعرفة تستوعب المنافع والمصالح والحاجات النفسيَّة والأشواق الروحيَّة والتوثبات العقليَّة والحاجات الإبداعيَّة والتزكية والعمران والأمَّة والدعوة.

المعلم السادس الضبط الدقيق للمفاهيم.

والمنهج القرآني لا يدع شيئًا للخرص والتخمين فهو يقوم بضبط الكلمة المفردة بمثل المستوى الذي تُضبط فيه مواقع النجوم في الفضاء الذي تسبح فيه، فأوصاف الناس وتقسيماتهم منضبطة غاية الانضباط، فذلك مؤمن يقابله كافر يتردد بينهما منافق، وأفعال كل من هذه الأصناف الثلاثة تتأثر تمام التأثر بما هم عليه من صفات، فالمفسدون لا يصلح الله أعمالهم لأنَّ الله ﴿لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (يونس:81)، والمتزكون هم الذين يعمِّرون الأرض، ويبنون مساجدها، ويرفعون أعمدتها، والله يكتب على الناس ما يفعلون ويدوِّن آثارهم فمن تزكّى أفلح، ومن دسَّ نفسه خاب، ومن اعتصم وأطاع سيحيا حياة طيبة، وسيجزى أجره بأحسن ما كان يعمل، وتستمر تفاصيل الحياة كلها سائرة بذلك الانضباط الدقيق لا يمسها خلل ولا يصيبها اضطراب، لا في فهم الناس، ولا في تقدير أفعالهم وآثارها، ولا في تحديد الصالح والفاسد، والحق والباطل، كل ذلك في كتاب وفي منهج لا يخطئ ولا يزيغ.

تلك بعض المؤشرات التي قد تعين الباحث على سلوك سبيل الكشف عن معالم المنهج القرآني وتشغيله وتفعيله. والله أعلم.

[1] علمًا بأنَّ مصطلح سنَّة لم يكن قد ظهر بعد ولم يجر تداوله.

مصطلح السنَّة في العصر الإسلامي الأول عمومًا

يمكن أن نلاحظ أنَّ مفهوم السنَّة قد جاء في القرن الأول بمعان عديدة، وقد نقل مَارَغُولِيوثُ تلك المعاني عن تاريخ الطبري في:

أولاً: فقد استعملت بمعنى العمل المشروع والمتعارف عليه مُقَابِلَ المُبْتَدَعِ المُسْنَدِ إلى البِدْعَةِ كما جاء في:

أ- كلام بين علي وعثمان (رضي الله عنهما) في سنة (34ﻫ): “فأقام سُنَّةً معلومة وأمات بِدْعَةً متروكةً”.

ب- وكلام طلحة (رضي الله عنه) في الحرب ضد علي (رضي الله عنه) في سنة (36ﻫ) “هذا أمر لم يكن قبل اليوم فينزل فيه القرآن، أو يكون فيه من رسول الله سُنَّةٌ”.

ج- خطبة الأشتر سنة (37ﻫ): “إن هؤلاء القَوْمَ لا يقاتلونكم إلا عن دينكم، لِيُمِيتُوا السُّنَّةَ، وَيُحْيُوا البِدْعَةَ، ويُعِيدُوكُمْ في ضلالة قد أخرجكم اللَّهُ (جل شأنه) منها بِحُسْنِ البَصِيرَةِ”.

د- فقد مضت به السنة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مستدلاً بخطبة عليٍّ (رضي الله عنه) في عام (37ﻫ) بعد وقعة التحكيم: “فَحَكَمَا بِغَيْرِ حُجَّةٍ بَيِّنَةٍ ولا سُنَّةٍ مَاضِيَةٍ”.

ﻫ- كلام الحسن (رحمه الله) للبصريين في سنة (60ﻫ): “وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)”.

و- محادثة السُّوَيْدِ مع مُطَرِّفٍ في سنة (77ﻫ): “وأن ندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه”.

ثانيًا: ومنها بمعنى العمل الحسن مقابل العمل السيئ: مستدلاً بخطاب عثمان (رضي الله عنه) إلى أهل مكة في عام (35ﻫ): “والسُّنَّةُ الحَسَنَةُ التي أَسْتَنُّ بها: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والخليفتان من بعد”.

ثالثًا: ومنها بمعنى النظام مقابل الفوضى: مستدلاً باستعمال الكلمة في عام (64ﻫ): “يأمر الناس بالسنة وينهى عن الفتنة”.

رابعًا: ومنها بمعنى العمل دون أية إضافة تعريف آخر واستدل بـ:

أ- مناقشة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) مع الخِرِّيتِ عندما خالف عليًّا في التحكيم وأراد الابتعاد عن عَلِيٍّ في (سنة 38ﻫ)، إذ قال: “هَلُمَّ أُدَارِسْكَ الكِتَابَ وَأُنَاظِرْكَ، في السُّنَنِ”.

ب- وصية المُهَلَّبِ لِأَبْنَائِهِ في سنة (82ﻫ): “عليكم بقراءة القرآن، وتعليم السُّنَنِ، وآداب الصالحين”.

خامسًا: وتنسب الكلمة أحيانًا إلى جهاتٍ شَتَّى مثل: سنة الإسلام في عام (34ﻫ)، سنة المسلمين في عام (36ﻫ)، سنة الله في عام (38ﻫ).

سادسًا: وبمعنى عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والخليفتين من بعده، في سنة (35ﻫ)؛ مستدلاً بالنص الآتي: ” السنة الحسنة التي أَسْتَنُّ بها: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والخليفتان من بعده”.

سابعًا: وبمعنى الأشياء التي هي فوق عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قاله مستدلاً بكلام زيد بن عَلِيٍّ (ت: 122ﻫ): “إنما ندعوكم لكتاب الله وسُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى السنن أن تَحْيَا وإلى البدع أن تُطْفَأَ”.

ثامنًا: وبمعنى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): هو الذي أرشدهم إلى العمل، مستدلاً بخطاب نُسِبَ إلى عَلِيٍّ (رضي الله عنه) في سنة 36ﻫ: “فعلمهم الكتاب والحكمة والفرائض والسنة، ثم إنَّ المسلمين استخلفوا أميرين صالحين عَمِلا بالكتاب والسنة، وَأَحْسَنَا السِّيرَةَ ولم يَعْدُوَا السُّنَّةَ، ألا وإن لكم علينا العَمَلَ بِكِتَابِ الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

تاسعًا: وبمعنى العمل الذي يشتمل عليه القرآن، مستدلاً بما وَرَدَ ضِمْنَ خِطَابِ المؤسس للدولة العباسية (عبد الله السفاح) في سنة (129ﻫ): “إن الله (جل شأنه) نَزَّلَ عليه كتابه… أحل فيه حلاله وحرم فيه حرامه، وشرع فيه شرائعه، وسن فيه سُنَنَهُ”.

[2] ويراجع كتابنا لسان القرآن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *