أ.د/ طه جابر العلواني
عندما تشتد الأزمات، وتلتبس السبل، وتبلغ الحيرة بالقلوب الحناجر؛ يبدأ الناس بالبحث عن قبس من نور، يخرجهم من الحيرة، ويطرد الظلمة من محيطهم، ويقدم لهم ما يبعث فيهم الأمل، وينعش الأماني، ويباعد بينهم وبين بلوغ حالة اليأس مداها، والسقوط في تلك الحالة السيئة ألا وهي حالة ما وراء اليأس، وهي حالة مدمرة كئيبة؛ تجعل الإنسان ينظر إلى ذاته وكأنَّه مجرد جزء مهمل في هذا الكون، لا مدار له، ولا قرار، ولا هدف، ولا غاية؛ فيصل إلى تلك الحالة التي يصفها الناس بالإحباط، وهم يريدون بذلك حبوط الأماني، وضياع الآمال، وبلوغ حالة اليأس، وما شاكل ذلك.
تعد هذه الحالة إذا أصابت أفرادًا مرضًا نفسيًا يحتاج إلى معالجة ليخرج منها صاحب الحالة المريض، وهو أمر هين، فالمستشفيات تستقبل آلاف المرضى بأمراض مختلفة، فمنهم من يشفى، ومنهم من يرد إلى أرذل العمر، أمَّا حين تصاب أمة في كيانها كله بذلك المرض فيا ويلها؛ فإن إصابتها تكون في غاية الخطورة تنذرها بالانتهاء والهلاك، فيعمها اليأس فتفقد فئاتها على اختلاف فعاليتها وطاقاتها، وتفقد نظمها ومؤسساتها شرعيتها وفاعليتها كذلك، وتتحول إلى قطيع من الأفراد تسوده نفسية العبيد، وعقلية العوام، وشخصية المنهزم المنهار، وطبيعة القطيع الذي لا يدري أين يتجه، وتبدأ حالة من التفكك والتفسخ؛ فلا تبقى روابط قادرة على جمع ذلك القطيع، وتنهار المثل العليا؛ فتزداد خبالًا على خبال، وفسادًا على فساد، ووبالًا على وبال، ويصبح الشك رائدها، والمكر السيئ سبيلها، والظنون والأوهام جزءًا من زادها، وقد تلجأ إلى الخرافة وتنغمس في الشهوة، وتتطلع إن كان لها شيء من قدرة على التطلع إلى المجهول والمغيب عنها، وتوهم نفسها إلى أن هناك مخلصًا لابد أن يكون موجودًا في مكان ما، وأنَّه سيظهر فجأة دون سابق إنذار ودون مقدمات؛ فإذا شعر بعض من لديهم بقية من شعور بأن ذلك مستبعد يصبح الموت أمنية، وانتهاء الحياة غاية؛ فتكثر حوادث الانتحار والمجازفة في الحياة؛ لأن الحياة لا تعود لها قيمة آنذاك؛ ولذلك قال الشاعر:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيًا *** وحسب المنايا أن يكن أمانيا.
أو كما يقول الآخر:
فيا موت زر إن الحياة مريرة *** ويا نفس جدي إن دهرك هازل.
هنا تفشوا الجماعات، وتكثر العصابات، وتسود الفرقة، وتنعدم الثقة، وتلك الجماعات والعصابات ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ (الحشر:14) لا رابطة تربطهم، تجمعاتهم أشبه بتجمعات بعض فصائل الحيوان في أماكن وجودها.
هنا نستطيع أن نقول: لا يبق من طريق أمام أي ناجٍ من هؤلاء إلا أن يبحث مع من لديه إثارة من علم أو قبس من فكر في خبايا الزوايا، وفي كل ناحية عما يمكن أن يصوغ منه برنامج إصلاح ودليل هداية، يمكن أن يعطي بصيصًا من أمل أو بصيصًا من هدى؛ فإذا حدث ذلك فإنَّه يعني أنَّ هذه الجماعة أو الأمَّة ما يزال لديها أمل في الحياة، وأنَّه لم تبلغ حالتها حالة النهاية وأن يودعها المصلحون أو يدعوها بشكل تام وكامل.
كانت الأمم السابقة حين تبلغ هذا الحال يأتيها الأنبياء لإنقاذها فإن هي استجابت لهم خرجت من أزمتها وعادت لحياتها من جديد، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام:122).
فإن تمردت على هذه الهداية وهو الأمل الأخير (أهلكت بريح صرصر عاتية) أو (بالصيحة) أو (الطوفان)، أو أي جائحة أو كارثة فتنتهي حياتها ماديًا كما انتهت معنويًا من قبل. فهل بلغت أمتنا هذا الحال؟!
إنَّ الأمَّة المسلمة للأسف الشديد قد شارفت هذه الحالة، ويستغرب الناس كيف عاشت هذه الأمَّة كل هذه القرون وهي تحمل نماذج من أمراض جميع الأمم وأمراض جميع الشعوب التي سبقتها، وكيف أفلتت من عقاب أصاب سابقيها في مقاتلهم بمجرد ظهور جزء من الفساد المتفشي فيها، وهي لا تزال على قيد الحياة ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الأنفال:33).
والأمَّة الإسلاميَّة لم تصب بفضل الله ونعمته بعقاب الاستئصال الذي سُلط على الأمم قبلها؛ لأنَّ القرآن الذي نزل على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مازال فيهم وما زال بين أيديهم، ومازال بعضهم يقرأه، ومازال بعضهم يستغفر لنفسه ولهذه الأمَّة التي ينتمي إليها، ورسول الله أُرسل رحمة للعالمين، فكيف لا يكون رحمة للذين ينتسبون إليه ولو بالاسم، والقرآن المجيد نزل على قلبه ليبشر به المتقين، وينذر به قومًا لدًا، وما زال القرآن محفوظًا بحفظ الله (تعالى)، وما يزال كذلك حتى يوم الدين ﴿يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لذلك فإنَّ اليأس من هذه الأمَّة لا يمكن أن يبلغ مداه، وحين تسقط الراية من يدي بعض أموات هذه الأمَّة، وتعود له الحياة والفاعلية، وتتولد لديه الإرادة وتتشكل فيه الدوافع؛ من هنا بادرنا إلى التقدم بمشروع الإصلاح القرآني لهذه الأمَّة؛ لأنَّ القرآن الكريم هو الكتاب الجامع الخالد المطلق الشامل الذي نجد فيه الشرعة والمنهاج، وهو الذي ولَّد هذه الأمَّة، وقام على تنشئتها ورعايتها حتى استوت على سوقها، وصارت خير أمَّة أخرجت للناس، أمَّة وسطًا تدعو إلى الله على بصيرة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتنشر الإيمان والأمان بشهادتها على الناس، ولن يصلح آخر هذه الأمَّة إلا بما صلح به أولها، ولقد حقق القرآن المجيد عمليَّة تنشئة وتكوين هذه الأمَّة في جيل التلقي بتلاوة نبوية وقراءة رسوله، قال الله (تعالى): ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ (الجمعة:2). وبتلاوة هذا الكتاب عليهم وتعليمهم إياه جرت تزكيتهم به، وشاع علمهم به.
ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أدى ما عليه وبلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. أمَّا اليوم فإنَّ الأمَّة الشاهدة تحل محل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلاوة الآيات وتعليمهم الناس الكتاب والحكمة وتزكيتهم به، للشهادة عليهم بأنَّهم فعلوا، وشهادتهم للأمَّة بأنَّها قد تلت عليهم الكتاب، وعلمتهم إياه وزكتهم به، فبرزت به كلمات التقوى وكانوا أحق بها وأهلها.
وهذه بشكلها العام موضع اتفاق قل من يرفضها أو يكابر فيها، كما أنَّ من مواطن الاتفاق بين البشر اليوم أن هناك عمليَّة انهيار في القيم وتسييل لها، وفصل للجانب الأخلاقي عنها؛ فلم تعد القيم ثابتة ولم تعد تستند إلى معتقد أو دين أو ميراث ثقافي وحضاري أو علم أو معرفة، بل صارت تستند إلى مبادئ أخرى أعلاها مبدأ المنفعة والمصلحة واللذة والألم، فالصدق لم يعد قيمة مطلقة ولا الأمانة ولا الوفاء بالوعد والعهد، كل تلك الأمور صارت ترتبط بالمبدأ الجديد اللذة والألم، والمصلحة والمنفعة مستندة إلى مبادئ بدأت تصاغ وتنتشر وتدرج ضمن قواعد التفكير المشتركة بين البشر من غير بحث عن مصادرها ومواردها ومآلاتها.
لقد انتشرت فكرة: “البقاء للأصلح” لا يدرى أول من قالها، ولا كيف تحولت إلى مبدأ عالمي ولا المبادئ التي استندت إليها، لكننا حين نحلل عوامل الصراع نجدها ظاهرة في الحث والحض عليها، فقد تستبيح الدول الاستعمارية استعمار الشعوب تحت شعار البقاء للأصلح، وقد يلقى كبار السن والمرضى والضعفاء في أفران غاز ويحولون إلى مواد قد تدخل في بعض الصناعات مثل: صناعة الأسمدة أو غيرها ولا اعتراض! لأنَّ شعار البقاء للأصلح قد وطأ الأكناف لذلك، ومهد الطريق إلى الاعتذار عنها.
ويناقش الإنسان اليوم في أمريكا وغيرها قتل الأجنة من أجل الحصول على Stem Cells الخلية الجذعية، يمد القادة والزعماء القادرين على دفع التكاليف بمقومات تجديد لبعض الخلايا التالفة في أجسادهم، وقاعدة “البقاء للأصلح” تمثل القاعدة الفلسفية التي تستند إليها العمليات المتعلقة بهذا كله.
ولقد حُوِّل الإنسان في ظل عمليات التسييل للقيم إلى مجموعة من المواد الكيماوية يمكن تجميعها بما لا يزيد عن عشر دولار، وسُوِّغت صناعات الأسلحة الفتاكة أيضًا بقواعد فلسفية مماثلة؛ لهذا تسوِّغ للشعوب القادرة الصناعية أن تقوم بتصنيع تلك الأسلحة وبيعها وهي تعلم ما فيها من قابلية للتدمير التي لن تفرق بين مقاتل وغير مقاتل ولا تدع شيئًا ﴿أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ﴾ بمثل تلك القواعد، وتضع قواعد أخرى تتحدث عن حقوق الإنسان وحمايته هي أضعف بكثير من تلك القواعد التي وضعت وشُرِّعت لتدميره والقضاء عليه.
إنَّ الإنسان اليوم في محنة، فكأنَّ هناك قوة خفية لها وسائلها في تدمير القيم وإنهاء دور المقدَّس وتحويل كل شيء إلى وسيلة تتوسل تلك القوة الخفية بالآلة الإعلامية الجبارة القادرة على تهيئة نفسيات الشعوب “للاستحمار” و”الاستخفاف” والتلاعب بأفكار واتجاهات التحسين والتقبيح لدى الإنسان.
ولقد خدعت الدول في بادئ الأمر بأنَّ ذلك مفيد لها، وأنَّه سيجعلها أقدر على المحافظة على النظم وجعل السلطة دُولة بين مجموعة من المتسلطين أو من يطلق عليهم النخبة، ويطلق عليهم القرآن الملأ، فهذه القوة الخفية بحيث توجهها حيث تريد، ووجدت تلك الدول نفسها محاطة بقوىً اجتماعية كثيرة تبرز بين الحين والآخر تشل فاعليتها وتنازعها شرعيتها، فتجد نفسها مضطرَّة للدفاع عن نفسها، وأحيانًا لكي تخوض المعارك ضد شعوبها التي يفترض أنها إنما جاءت لخدمتها والمحافظة عليها، وحماية ضرورياتها وحاجياتها وكمالياتها، وعدم التفريط في شيء منها، وآنذاك تُوجد القوة الخفية مختلف الظروف التي تدفع الجميع الدولة ومن تحكمها الدولة من القوى للجري وراء القوة الخفية، والبحث عنها من خلال دول اختارت تلك القوة الخفية أن تجعل منها رموزًا وشركاء في صنع القرار، فتجد الحاكم يزور تلك الدول اليوم، والمعارضة تزورها غدًا، وفصائل المعارضة تزورها بعد غدٍ وبعدها، ولا يرجع أي منهم حتى (بخُفي حنين)، فالكل يرجع خاسرًا والكل يرجع فاشلًا.
وهذه القوة الخفية قد وضعت العالم كله على شفا محيط من الأزمات تحيط به من كل جانب، وتحرك دِوله كما تحرك العرائس في مسرحها، فهي التي تحدد للناس ما يأكلون وما يشربون في إطار الإعلانات وصناعة الإعلانات العملاقة، وتحدد لهم ما يلبسون وما يشربون وما يكرهون وما يقبلون وما يرفضون، معتمدة على مجموعة من قواعد التفكير المشتركة التي صنعتها وبلورتها وغمرت العالم بها.
هناك فلتات ألسن أو دراسات تشير في بعض الأحيان على خوف من فرعون وملائه إلى أطراف هذه اللعبة، لعبة القوة الخفية، وتشير على استحياء إلى بعض مظاهرها، ولا يقترب منها أحد، فالكل في رعب منها حتى أولئك الذين شاركوا فيها في مرحلة من المراحل لا يجدون أنفسهم قادرين على المشاركة فيها.
والقرآن المجيد وهو كتاب الله الذي فصله على علمه يبين لنا بوضوح أن قوةً كهذه أُخفيت أو أُعلنت لا بد أن تكون مرتبطة بالشيطان، فالشيطان يحركها ويصنعها ويروج لها، ويوحي إليها زخرف القول غرورًا.
(يتبع)