Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

ملحمة الكلب “ماكس”

أ.د/ طه جابر العلواني

الكلاب أمَّة من الأمم، قال الله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم .. (الأنعام:38)، فنحن المسلمون نعتبر أنفسنا كسائر البشر خلفاء الأرض، مسؤولين عن عمارتها وحماية المخلوقات عليها، إلا ما ثبت ضرره، وبان شره، وتمحض فساده وإفساده.

والكلب ذكر في كتاب الله في مواضع لعل أهمها قوله: ﴿.. وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (الكهف:18) حتى قيل: إنَّه الكلب الوحيد الذي سيدخل الجنة، وهناك حديث ينبه إلى مسؤوليَّة الإنسان عن حماية الحيوان على وجه الأرض، وهو حديث الهرة: “دخلَتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ ربَطَتْها، فلم تَطعَمْها، ولم تَدَعْها تأكلُ من خَشاشِ الأرضِ”[1] وما ذلك إلا لأنَّ الله (جل شأنه) استخلف الإنسان في هذه الأرض ليعبد الأرض، ويحسن الخلافة في خلقه جميعًا، وكل خلقه يسبح بحمده، والإنسان هو قائد سنفونيَّة التسبيح وقافلته فيها، والأرض توصف بالموت وتوصف بالحياة: ﴿.. وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الحج:5-6) فإذًا الأرض لها موت ولها حياة، وإحياؤها أن نحافظ على خضرتها وحياتها وشجرها وحيوانها، فإذا أهمل شيء منها فقد مات، وعلينا بمقتضى الاستخلاف أن نقوم بإحيائه، وقد روي أنَّ الكلاب السوداء الضالة كثرت في المدينة المنورة حتى صارت تسبب ازعاجًا للأطفال وللناس، وقد تمر بين أيدي المصلين، فتؤثر في خشوعهم في صلاتهم، فروي عن رسول الله (صلى الله عليه  وآله وسلم): “لولا أنَّ الكلابَ أمةٌ منَ الأمَمِ لَأَمَرْتُ بقتْلِ كلِّ أسودَ بهيمٍ ..”[2].

والقرآن المجيد أحل لنا اتخاذ الكلاب للصيد والحراسة، وعلينا أن نحسن إليها ونبرها، وقال تعالى فيها: ﴿.. وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (المائدة:4) فهو عامل من العمال. ورعاة الماشية يحتاجون الكلاب لحراستها من الذئاب، ولمساعدة الرعاة على السيطرة عليها، وجمعها حين تتفرق وتنفر، ومساعدة الرعاة في السيطرة عليها في الغدو إلى المراعي وفي الرواح منها، ويعيش الكلب عند هذا الصنف من الناس كأنَّه واحد من أفراد الأسرة، تهتم الأسرة بطعامه وشرابه ومنامه وحمايته والمحافظة عليه، وعرفت البادية العربيَّة الكلاب في الحراسة والصيد، تقول البدوية التي تزوجها معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-:

ولبس عباءة وتقر عيني        أحب إليَّ من لبس الشفوف

وكلب ينبح الطراق دوني          أحب إليَّ من قط أليف

ويروي المؤرخون المعاصرون للملك عبد العزيز مؤسس المملكة العربيَّة السعوديَّة -طيب الله ثراه- قصة مشهورة، هي: قصة برقيته التي أرسلها إلى المسؤول عن جباية الزكاة، حين ذهب إلى إحدى القبائل يطالبها بأداء الزكاة فرفضت، وقتل أحد أبنائها كلب القوة التي كانت ذاهبة لجباية الزكاة، فبعث رئيس لجنة جباية الزكاة إلى الملك عبد العزيز آل سعود يخبره بأنَّ القبيلة قد تمردت ورفضت دفع الزكاة، وأنَّ أحد أفرادها قد قتل الكلب الذي كان يرافقهم، فرد الملك عليه ببرقية وجيزة هي-حسب قول المؤرخين-: “اقتلوا قاتل الكلب”، فتهيب المسؤولون عن قتل إنسان بكلب، فلم ينفذوا أمر الملك، وذهبوا إلى قبيلة أخرى، فتمردت عليهم كذلك، وحصلت مشادة بينهم وبين أحد أبناء القبيلة فقتل عسكري من مرافقي لجنة جباية الزكاة، فبعث قائد اللجنة إلى الملك يخبره ويسأله الرأي والتوجيه؛ فلم يرد الملك بأكثر من قول: ألم أقل لكم اقتلوا قاتل الكلب؟. ليفهموا من ذلك أنَّه كان يريد أن يعلم تلك القبيلة شيئًا عن هيبة الدولة، وأنَّ المسألة ليست مسألة نفس الكلب مقابل نفس إنسان؛ بل عقوبة لانتهاك حرمة الدولة.

 وبقطع النظر عن فتاوى المفتين وأقوال الفقهاء، وبمن اعتبروا هذا من السياسة الشرعية أو الفريق المعارض الذي منع من ذلك، واعتبره خروجًا عن الشرع بالتسوية بين الإنسان والكلب، فليس الهدف من إيراد هذه القصة الدخول في حوار فقهي حول هذا الأمر، ولكن لنبين أنَّ للعرب وللمسلمين تاريخًا في قضيَّة وجود الكلاب بينهم وعنايتهم بها ومعرفتهم بأنسابها كمعرفتهم بأنساب الإبل والخيول وما إليها، وبيان الفصائل التي تصلح للصيد والأخرى التي تصلح للحراسة والزراعة والرعي وما إلى ذلك، وقد كانت في أوقاف المسلمين حين كانت الحضارة الإسلاميَّة قائمة ولها حواضرها في الشام وبغداد والقاهرة وقيروان وغيرها، كانت هناك دور للكلاب الضالة والعاجزة عن العمل، وكذلك للقطط، تعنى بإطعامها وشرابها ودفنها إذا نفقت، وحجج الأوقاف في هذه البلدان ما تزال شاهدة على ذلك، حيث نجد من أوقف مبنًا ومالًا للكلاب أو القطط أو الخيول التي استخدمها الجيش ثم تقدمت بها السن وعجزت عن الخدمة وما إلى ذلك.

إنَّ الكلب في عصرنا هذا قد انضم إلى البوليس، وصارت لدينا كلابًا بوليسيَّة في مختلف المطارات والمحطات، وقد ترافق الكلاب البوليسيَّة رجال الشرطة في البحث عن الجناة أو آثارهم في الجرائم الكبرى، ولدينا أحكامًا فقهيَّة تتعلق بالكلاب من حيث الطهارة والنجاسة، لم يعد الأكثرون من المسلمين يفهمونها، وأذكر أنَّنا ذهبنا لعقد مؤتمر كبير للمسلمين في إحدى الولايات الأمريكيَّة، وكان هناك أعدادًا كبيرة من غير المسلمين في تلك الولاية يتعاطفون مع المسلمين ويحبون أن يؤيدوا قضاياهم، فأردناها فرصة لكسب مزيد من التعاطف مع قضايا المسلمين  هناك، ومعرفة أنَّ المسلمين يشكلون حضارة لا عبئًا على الحضارة الأمريكيَّة، وإذا بنا نفاجأ في أول أيام المؤتمر بسائق باكستاني مسلم كان في المطار فجاءه كفيف يقوده كلب مدرب على قيادة المكفوفين، فرفض السائق المسلم حمل الكلب، وقال له: إنَّنا نعتبر الكلب نجسًا، ولا أريد أن أنجس سيارتي، فاشتكى الكفيف إلى الشرطة بأنَّ ذلك السائق ينتمي إلى دين أو فئة عندها تمييز عنصري ضد المكفوفين، وطالب بفرض تعويض عليه؛ لأنَّه أخره وأساء إليه وإلى كلبه، كان ذلك كافيًا لأن تقف كل صحافة الولاية والبوليس ضد الجالية المسلمة كلها دون تمييز، وانقسم المسلمون بين مقر لهذا الإنسان على فعله، حتى لو أدى إلى كل تلك الأضرار وبين شاجب له، واستدعيت أقوال الفقهاء في نجاسة الكلب، ونصحت المسلمين -آنذاك- بأن يأخذوا بالمذهب المالكي؛ فهو أقرب المذاهب الذي يمكن أن يجنب المسلمين مثل هذه المواقف الحرجة، فالإمام مالك: لا يرى أنَّ الكلب نجس إلا في لعابه.

 حين تنبري بعض الأقلام اليوم لشتم الإسلام والمسلمين، وإضافة تعامل بعض الشباب مع الكلب “ماكس” في القاهرة الكبرى دليلًا على وحشيَّة المسلم وقسوته، وتنبري الفضائيَّات إضافة إلى الشبكة العنكبوتيَّة للتنديد بذلك الفعل الشنيع، والقتل المتوحش لذلك المسكين الذي صب عليه أولئك الشباب كل ما فيهم من عنف ونوازع إرهاب، فقتلوه وهو سكران كما ذكر صاحبه بالسواطير، وتباكت الفضائيَّات عليه، وظهر صاحبه “حماده” يندب كلبه المدلل الذي يسميه مرة ابنه وثانية أخاه وثالثة صديقه، وأم حماده بجانبه ترتشف القهوة السادة وتبكي لبكائه وتبدي لكلب ولدها من المشاعر ما يجعلنا نتذكر محمد مصطفى حمام حين قال:

يا مدلعين الكلاب والآدمي منسي

ضحكي على الكلب بكاني على نفسي

وفضلت أفكر في سعد الكلب وف نحسي

وأقول لروحي يا ريت الدنيا تتشقلب

وادخل في جنس الكلاب والعن أبو جنسي

اربطني بالسلسلة واصلبني فيها صلب

وحط لي معزة واحلب لي لبنها حلب

واديني بسكوت ولحمه وشي يسر القلب

ولك علي أكون كلبك ومحسوبك

وعمري ما ازعل من اللي يقوللي يا ابن الكلب

لقد عشت في الولايات المتحدة وقبل حوالي عشرين سنة اطلعت على احصائيَّة للكلاب فيها، تشير إلى أنَّ فيها سبعين مليون كلب، وخمسين مليون قطة، وأنَّ مصاريف الكلب تتراوح بين خمسة إلى خمسة عشرة دولار في اليوم الواحد، وقد تتجاوز ذلك بكثير لدى الأسر الغنية، وحسبنا ذلك مع مصاريف القطط والثعابين الكبرى يكفي لثلث فقراء أفريقيا لو وزع عليهم، ووجدنا أنَّ العناية بالكلاب والقطط والثعابين الكبرى وغيرها من الحيوانات تنجم عن الإحساس بالوحدة والاغتراب عن المجتمع، وعجز الإنسان عن أن يتخذ لنفسه صديقًا من بني الإنسان؛ فيتجه نحو تلك الحيوانات ليتخذ منها الصديق حتى لو كان من تلك الحيوانات المخيفة كالثعابين الكبرى يتخذها صديقًا، وكنا نشاهد بعضهم أحيانًا يحمل ذلك الثعبان ووزنه يقرب من عشرة كيلو أو يزيد فيلفه على رقبته ويحمله ويتنقل به من مكان إلى آخر، وقد يركب بعض المواصلات العامَّة وهو معه، مما اضطر بعض المسؤولين عن تلك المواصلات أن يضعوا لافتات بمنع ذلك؛ لئلا تخيف الأطفال ومن إليهم، وتسبب لهم حوادث وكوارث، أحيانًا قد تدفع بالخائف من الأطفال إلى أن يقفز إلى الخارج فيؤذي نفسه .. إلخ.

إنَّنا في بلدان تعيش غالبيتها العظمى تحت خط الفقر، والبلدان المجاورة لنا مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن، نجد فيها أعدادًا هائلة من الباحثين عن لقمة العيش في القمامة، ولا شك أنَّ الإنسان يستطيع أن يكون أكثر وفاءً من الكلب وإيناسًا من القطة لو وجد من يتبناه وينفق عليه بالقدر الذي ينفق على كلابه.

 نحن لا نقر الطريقة التي قتل بها المشهود له بالخير من صاحبه وأمه “ماكس”، فقد كان بإمكان سكان ذلك الشارع أن يبلغوا الشرطة ويطالبوها بالتخلص بطريقتها من الكلب إن ثبت فعلًا أنَّه مؤذي، فللشرطة أسلوبها في إنهاء حياة الكلاب الضارة أو المسعورة دون أن نعرض أطفالنا وأبنائنا لرؤية تلك المناظر المرفوضة، خاصَّة إذا صح أنَّ “ماكس” قد اعتدى على كثير من الجيران ومنهم من عضه في مكان حساس، ولعل تذكير الناس بقصيدة محمد مصطفى حمام تنبه المدلعين للكلاب بأن يغيروا ويقبلوا على تدليع إنسان ليخرجوا به من حالة الاغتراب ومرض الاغتراب “Alienation”.

 والله من وراء القصد.

[1] الراوي: عبدالله بن عمر، المحدث : البخاري، المصدر: صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 3318، خلاصة حكم المحدث: صحيح.

[2] الراوي: عبد الله بن عباس، المحدث: الهيثمي، المصدر: مجمع الزوائد، الصفحة أو الرقم: 4-46، خلاصة حكم المحدث: إسناده حسن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *