أ.د/ طه جابر العلواني
هناك أسئلة خمسة نحتاج إلى أن نفكر فيها، ونعمل بكل ما لدينا من طاقة عقليَّة وذهنيَّة ونفسيَّة على الإجابة عنها. بعض الشعوب حين سئلت عن الحالة التي تمر بها بلداننا: العراق، سوريا، اليمن، ليبيا، الصومال، باكستان، أفغانستان، وغيرها، كانت الإجابة هي “الفوضى الخلَّاقة”، التي صممها كسينجر ونفذتها كوندوليزا رايس، فهذه المنطقة العربيَّة وعمقها الاستراتيجي الإسلامي في نظر هؤلاء، لابد من إحداث فوضى خلاقة فيها، والفوضى معروف معناها، والخلّاقة تعني أن تخلق أشياء ويترتب عليها أشياء وتخفي أشياء وتبرز أشياء؛ لكي يأتي المستفيد فيأخذ مما تمخضت الفوضى عنه ما يروق له، قد يجد ذهبًا أو معدنًا نفيسًا آخر، وقد يجد ثعابين، وقد يجد غثاءً وأشياءً تالفة، وقد يجد ما ينفع أو يضر، والذي يُحدث الفوضى الخلّاقة ليستفيد منها إما أن يكون إنسانًا حاول أن يستفيد والأوضاع عادية فخشي أن يوقظ الحراس أو أهل الدار فيدفع ثمنًا غاليًا. أو رخيصًا فيعمد إلى إحداث فوضى منظمة، لا تسمح لأهل الدار أن يقاوموه، بل تشغلهم جميعًا وتشتت جهودهم، أما هو فتكون لديه الفرصة أن يأخذ ما يريد ويصطفي ما يشاء ويذهب بما حصل عليه دون أية خسائر وبلداننا منذ قرون ومنذ أن تسلط الغرب علينا، وهو يدفعنا من فوضى إلى أخرى تحت أسباب ومسميات مختارة، هو الذي يختارها، وهو من يهيئ لها، ولكن لابد أن نعرف أنه يستعين على نشر الفوضى أيّا كانت: خلّاقة أو مزلاقة أو خنّاقة أو دقّاقة، نحن الذين نعينه على إحداثها وتدبيرها وتفجيرها ساعة يريد وبالشكل الذى يريد بغبائنا واستعدادنا وقابليّتنا للاستحمار وللاستعمار، رأى أبصارًا زائغة وظهورًا ممدودة فأمتطاها ومارس عليها ما أراد، ولولا القابلية للاستحمار والاستعمار لما كانت الطريق سالكة ممهدة بين يديه، إننا في حاجة إلى أن نعيد هذا السؤال: من المستفيد؟ ونضع بين أيدينا كل الاحتمالات وكل الفروض ونظل نفكر ونحذف ونستبق منها بمقتضى الأدلة والقرائن، نحذف ما يستحق الحذف ونبقي على ما من المحتمل أن يكون مؤثرُا، ونظل نفعل ذلك ونغربل؛ حتى نحصر الأمر في اثنين ثلاثة أربعة من المستفيدين؛ لنقول هذا هو المستفيد، وهذا هو العدو فلنحذره، وهذا السؤال حين يطرح ينبغي أن ترافقه أسئلة أربعه أخرى، ما هو؟ وأيّ شيء هو؟ ولماذا يفعل هذا؟ وكيف فعله بين أيدينا؟ – العراق نموذجا من المستفيد من كل ما حدث فيه -.
منذ أوائل القرن الماضي وحتى يومنا هذا وأيّ شيء هو هذا الذي فعل بالعراق والعراقيين كل هذه الأفاعيل، ولم وماذا فعله، وكيف فعله. آنذاك سيكون لدينا قدرة على معرفة المستفيد سواء عرفناه كفاحًا ومباشرة ووجها لوجه، أو عرفناه بلحن القول أو بسيماه أو بآثاره أو بتاريخه أو بعلامات تدل عليه وتشير إليه، وكذلك الحال بالنسبة لأفغانستان وجيبوتي والصومال وسوريا وباكستان واليمن وليبيا وداعش والقاعدة.. من المستفيد من الأوضاع في سوريا؟ من المستفيد في اليمن؟ من المستفيد من القاعدة؟ من المستفيد من داعش؟ من المستفيد من كل ما حدث بدون الدخول في أية تفاصيل، لو استطعنا أن نفعل ذلك لربما استطعنا ولو بعد حين أن نكوّن عقليّة قادرة على التمييز وعلى الفهم وعلى تتبع للأحداث ومعرفة صُنَّاعها وجذورها وكيف يوظف هؤلاء استعدادات الشعوب وقابليتها وثقافاتها وتاريخها وأديانها وطوائفها؛ توظيفًا يجعلهم قادرين على التلاعب بمصائر الشعوب، وإيجاد ثقافة بينها أقرب إلى ثقافة عاش الملك مات الملك، ترى لو سأل الشيعيّ نفسه في العراق من المستفيد إذا قتلت أخي السنيّ، أو أحرقت داره. وسأل السنيّ نفسه ذات السؤال من المستفيد من قتل أخي الشيعيّ أو تدمير داره. وتابع الأسئلة التي ذكرنا؛ لمعرفة هُويّة المستفيد وأي شيء يستفيد ولماذا أثار الفتنة؟ سيجد نفسه يجري لأخيه ليعانقه؛ لأنه سيدرك خطأه آنذاك وسيدرك أنّه بفعل المستفيد ضلّ ضلالا بعيدًا عن خصمه الحقيقي وأعطاه فرصة أن يغنم ما يشاء وأن يفئ بغنيمته سالما. إنّ المستفيد يضن بدمه، وعنده أن شعبًا بأكمله، مثل العراق أو سوريا، هو أرخص عنده من نفر من أبنائه يقتل؛ لذلك ابتدع تجنيد المرتزقة واستقطاب الشذاذ واخترع طائرات بدون طيار تدمر ما يشاء وتعود إلى التدمير متى شاء، وإن هي سقطت فهي مجرد خسارة مادية يعوضها مما حاز من الفوائد ونهب في ظل الفوضى بقطع النظر عن تسمياتها.
يا قومنا دعونا نسأل هذه الأسئلة ونعيدها مرة بعد أخرى؛ كيّ نكتشف المستفيد ولا ينبغي أن نصرف نفائس أوقاتنا بتلك التحليلات الضالة المضللة، التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تبعث وعيًا ولا تحقق شيئًا. جربوها إن شئتم لأسبوع أو لشهر، وسترون هول الفاجعة، إن المستفيد اليوم كالمستفيد مما مضى في غزوة بدر، إذ قال الله تعالى﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾(الأنفال 48).
إن المستفيد يحاول أن يتظاهر بمظاهر مختلفة فقد يدّعي الصداقة والإخلاص، وما هو بصادق وما هو بمخلص. كل هدفه أن يدفع بعضنا إلى مقاتلة البعض الآخر، ثم يتنصل من الجميع وينصرف لإحصاء مكاسبه من الحدث ومما فعل، إن لدينا شياطين من الإنس متعاونين مع شياطين من الجن. شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم لبعض زخرف القول غرورًا، والذين يستمعون إليهم ويتأثرون بهم وينطلقون خلفهم من غير أن يسألوا أنفسهم هذه الأسئلة، ويعرفون من هو المستفيد وحقيقته، وما الذي يستفيده، ولماذا فعل ما فعل، وكيف فعل؟ هؤلاء ذاهبون إلى الهاوية، هؤلاء يدمرون أنفسهم، وسيتنصل شياطين الإنس والجن منهم،﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ …﴾(آية22 سورة ابراهيم).