أ.د/ طه جابر العلواني
تشرفت خلال فترة حياتي بمعرفة أعداد كبيرة من المراجع السنيّة والإباضيّة والشيعيّة، وتتلمذت على البعض منهم، خاصة إمام العراق بلا منازع شيخ الإسلام والمسلمين أمجد بن محمد سعيد الزهاوي الذي كان قمة في علمه وفي تقاه وورعه، وحين يصنف العلماء على سبيل التنزل إلى عالم قطر أو شعب أو طائفة أو فئة أو مذهب أو حزب، فشيخي الزهاوي ذلك كله لأنه كان عالم أمة، يحب الأمة الإسلامية كلها إلى درجة العشق، لا يفرق بين طائفة وأخرى ولا بين قوميّة وأخرى، يؤرقه أيّ شيء يصيب مسلمًا أو مسلمة في أيّة ناحية من نواحي الأرض، يحزن لحزنهم يبكي لبكائهم يفرح لفرحهم – إن وجد-، يتحمل ما لا يتحمله البشر في سبيل قضايا الأمة، يمكن أن تمضي عليه أيام وليال وهو مستغرق في التفكير في معالجة قضيّة من قضايا الأمة من غير أن يأكل أو يشرب أو يشعر بمرض أو تعب أو يستسلم ليأس، حدود نفسه لا يتذكرها ، فالأكل والشراب والنوم لا يخطر بباله إلا اذا ذكره أحدًا به، تعلمت منه حب الأمة وتاريخها وتراثها قبل أن أتعلم منه فقهه العميق وأصول الفقه على مذهب السادة الحنفيّة، تعلمت منه الأدب الجمّ، تعلمت منه كيف يذكر الناس بالله بسيماه دون أن ينطق بكلمة واحدة فبمجرد أن تراه أو تجلس إليه تذكر الله (جل شأنه) وتسبح بحمده، وتتساءل عن هذا الإنسان المتطلع إلى الكمال وتفخر أن في المسلمين علماء أمثاله، صحبته مرة للقاء الراحل عبد الكريم قاسم للتوسط للشيخين الجليلين: الشيخ الشهيد عبد العزيز البدريّ – يرحمه الله – والشيخ محمد مهدي الخالصي – يرحمه الله – اللذين فرضت عليهم السلطات الإقامة الجبريّة في عهده، وقصة استضافة الراحل الفريق الركن عبدالكريم قاسم له قصة طويلة قد أوردها في مناسبة أخرى، لكن الذي أردت لفت الأنظار إليه في هذه المناسبة هو شيء من خلقه وسلوكه.
أولا: احترامه لحسينيات الشيعة، كان شيخي- يرحمه الله – قد تولى نقابة المحاميين العراقيين لفترة وقد استولت مجموعة بهائيّة على إحدى الحسينيّات الشيعيّة واتخذتها موقع عبادة لها وأقام اخواننا الشيعة آنذاك دعوة خسروها، فاقترح الإمام الحكيم السيد محسن أن يوكل الشيعة الشيخ الزهاويّ محاميًا في هذا الموضوع وقام عليه – رحمة الله – بالترافع أمام المحكمة المختصة واستصدر حكمًا بأن هذه الحسينيّة مسجد تقام فيه الصلوات الخمس يصلي فيه المؤمنون فيه بوجوب الصلوات الخمس والمقيمين لها بشروطها القرآنية وموصفاتها النبوية، وهم السنة والشيعة وليس للبهائيّة الحق في سلبها منهم، وبطبيعة الحال لم يتقاضى الشيخ فلسًا واحدًا عن أتعابه، وقد كسب الدعوى وانتصر على البهائيين للشيعة في ذلك الموقف.
كان الغضب يظهر على وجهه بسرعة حين يأتي أحيانا بعض الناس ويذكرون أحد من الشيعة بسوء، ويرد فورًا: “أفندي هؤلاء اخواننا مسلمون مثلنا قبلتنا واحدة ديننا واحد قرآننا واحد نبينا واحد متفقون على تحريم ما حرم الله وإباحة ما أباح وفرضية ما افترض”، ولذلك لم يكن أحد يجرؤ أن يذكر الشيعة عمومًا أو شيعيًا بسوء، أكان ذلك عالما أو سياسيًا فقيهًا أم عميّا، ولم أره يشتد غضبه إلا في مثل تلك المواقف، أو المواقف التي تقع فيها كارثة على مسلم أو شعب أو مجموعة من المسلمين، فكان يمثل التقوى بأجلى معانيها، فإذا أردت أن تفهم التقوى دون تعريف أرسطي أو فلسفي فأنظر في وجه أمجد الزهاوي – يرحمه الله – أذكر له موقفًا حين توفى الشيخ قاسم القيسي الذي أعده آخر مفت رسمي للعراق – له مكانة المفتي ويستحق أن يطلق عليه هذا اللقب – ،بعثت حكومة العراق برئاسة نور السعيد إلى الشيخ الزهاوي الراحل بهجت الأثري والأستاذ الدباغ عن نور السعيد وخليل كنَّة؛ لإقناعه بأن يتولى الافتاء خلفًا للشيخ قاسم القيسي، وبعد حوار طويل بينهم وبينه استمر ما يزيد عن ساعة أصرّ – يرحمه الله – خلالها على أن لا أترك الغرفة لكي يخلوا به، وبعد كل العروض المغريّة وأنهم يريدون تشكيل مرجعيّة من العلماء يحافظون على دين البلاد وإسلامها لمواجهة أخطار البلاد والشيوعية وما إليها، ما زلت وكأني أسمع صوته الآن لبهجت الأثري “أخي أفندي أنا في سن لا تسمح بأن يُضحك عليّ وأنا أعتبر نوري والحكومة العراقية كلها مسئولين عن فتح الأبواب أمام الشيوعيين واعطائهم فرصة الانتشار، فلولا هذه الحكومة وبرامجها التعليميّة وفساد برامجها الإعلامية وأخطاؤها السياسيّة لما قامت للشيوعيين قائمة في بلادنا ولما صار الشيوعيون بحيث يهددون مستقبلنا أفندي- يخاطب بهجت الأثري وصاحبه – قل لنوريّ مثليّ ومثلكم مثل سعيد بن جبير والحجاج، فقد سأل الحجاج سعيدًا وهو بين السيف والنطع، ما رأيك في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فذكره بما فيه وبين أسوأ ما فيه، فقال له الحجاج وما رأيك فيّ ؟ فقال سعيد وهل أنت إلا سيئة من سيئات عبد الملك بن مروان” وأنا أقول “وهل الشيوعية إلا سيئة من سيئاتكم وسيئات نظامكم”. تذكرت شيخي الذي إذا كان في العراق أحد يستحق لقب مرجعيّة، فكنت أتمنى المرجع السيستاني لو عرف من الإمام الزهاويّ ما عرف السيد محسن الطباطبائي الحكيم؛ لأدرك أن من يجب أن يكون مرجعًا في العراق، لابد أن يكون مرجعًا للعراقيين كافة، يوقر كبيرهم ويرحم صغيرهم ويغار على حرماتهم ويحمي أعراضهم ويقف في وجه أعدائهم ويحول بينهم وبين الوقوع في الفتن والاحتراب لا يسمح بأن تتعكر العلائق بين أبناء العراق لا يسمح بأن يخل الشيعي بأخوته مع السني ولا السني بأخوته مع الشيعي، لكن المؤسف أن الواقع غير ذلك، إن بمقدور المرجع السيستاني والمراجع الأخرى أن يحقنوا من الدماء دماء العراقيين كافة شيعتهم وسنتهم، نسبة عالية قد لا تقل عن تسعين بالمائة، فكل دم للعراقيين يسفح ويسفك في رقاب هؤلاء المتصدين لمقام المرجعيّة، وسيسألهم الله عنه حيث أنه كان بإمكانهم أن يحفظوا تلك الدماء البريئة ففرطوا في واجبهم وقصروا فيما لا ينبغي لأمثالهم أن يقصروا فيه.
إننا ذاهبون إلى رب كريم وسيسألنا عن كل شيء، فسيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان يقول ” لو مات جمل ضياعا على شط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه”. إن الدماء التي تسفك في العراق وفي الشام وفي اليمن الآن يتحمل أولئك الذين سموا أنفسهم مراجع كلها أو كفل منها، فالنعرات الطائفيّة والدعوات العنصريّة حين تضفي عليها المرجعيات عباءتها تتحول إلى دين وتدين إلى العامة وتختل الموازين. وإني لأعجب للحكام الذين يحكمون العراق خاصة كيف يستطيعون أن يخلطوا بين المرجعيّات ذلك الخلط العجيب. فالسيد السيستاني كأنه المرجع الأوحد للعراق وكأنهم منحوه ولاية الفقيه على العراق وإن لم يكن من مؤيديها فقهًا. والمرجعيّة الأمريكية لأنها المحررة، والمرجعيّة الإيرانيّة لأنها تمثل العمق الاستراتيجي، والبيت الشيعي لأنه يمثل المرجعّية المحليّة والشعبويّة، ولا أدري أعداد المرجعيات التي كانت ترجع إليها حكومة المالكي وترجع إليها اليوم حكومة العبّادي. ألا يا مرجعيّات العراق ارحموا بحال العراق ارحموا أطفالهم المشردين ونسائهم ولاجئيهم ومشرديهم وإن ربك لبالمرصاد.