أ.د/ طه جابر العلواني
تحتاج الأمم في بعض الأحيان إلى بناء حاجز نفسي بينها وبين أعدائها خاصة حين يكون أولئك الأعداء من الأذكياء القادرين على رصد ثغور الأمّة ما ظهر منها وما بطن، ويعرفون من أين يمكن أن يُنفذ إلى داخلها وينالون منها ويضعون خلالها، ويهددون كيانها ووحدتها وأمنها، في هذه الحالة يصبح بناء الحاجز النفسي ضرورة لابد منها. فترى أمّة من الأمم تبالغ جدًا في رسم أبشع الصور لأمّة معادية لها وإيجاد تحذيرات شديدة من تلك الأمّة المعادية الخبيثة لإنّ ذلك يصبح درعًا يحمي الأمّة من هجمات الأمم المعادية.
فالطليان -على سبيل المثال-حين دخلوا ليبيا لقنوا جندهم وضباطهم نشيدًا بنى حاجزًا نفسيًّا بينهم وبين المسلمين عامة ومسلمي ليبيا خاصة، هذا النشيد ننقله لفظًا عن كتاب شكيب أرسلان “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم ” حيث يقول النشيد الايطالي لشاب في العشرين من عمره:
“يا أماه أتمي صلاتك ولا تبكي، [1]
بل اضحكي وتأملي،
ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني،
وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحاً مسروراً،
لأبذل دمي بسحق الأمة الملعونة،
ولأحارب الديانة الإسلامية،
التي تجيز البنات الأبكار للسلطان،
سأقاتل بكل ما أملك لأمحو القرآن،
سأقاتل بكل ما أملك لأمحو القرآن،
سأقاتل بكل ما أملك لأمحو القرآن.
ليس بأهل للمجد من لم يمت إيطاليًّا حقا.
تحمسي أيتها الوالدة. تذكري كاروني التي جادت بأولادها في سبيل وطنها.
يا أماه أنا مسافر. ألا تعلمين أن على الأمواج الزرقاء الصافية من بحرنا ستلقى سفائننا المراسي؟ أنا ذاهب إلى طرابلس مسروراً، لأن رايتنا المثلثة الألوان تدعوني. وذلك القطر تحت ظلها.
لا تموتي لأننا في طريق الحياة. وإنّ لم أرجع فلا تبكي على ولدك. ولكن اذهبي في كل مساء وزوري المقبرة. ونسائم الأصيل تحمل إلى طرابلس وداعك الذي يأبى الحداد على قبر فلذة كبدك وإن سألك أحد عن عدم حدادك عليّ فأجيبيه أنه مات في محاربة الإسلام.
الطبل يقرع يا أماه أيضا ألا تسمعين هرج الحرب دعيني أعانقك وأذهب”.
فهذا النشيد الإيطالي مترع بالكراهيّة ملئ بالبغضاء والتحريض على العنف والقتل والتدمير بل والإرهاب لكنه ظل الطليان يرددونه عقودًا طويلة ومن يدري فمن المحتمل أنّه لا يزال من بين أناشيدهم التي يلقنونها لأجيالهم فالمحاربون دائمًا يعتمدون على مثل هذه الأناشيد والأدبيات للتحريض وبناء الحواجز النفسية. ولقائل أن يقول: إنّه نشيد وطنيّ ولندع النشيد الوطني جانبًا، حسنًا فلنذهب إلى التوراة التي أنزلها الله هدًى ونور؛ حيث قال الله (عز وجلّ): ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ (المائدة:44) ولما لم تستجب التوراة الحقيقيّة لأحقادهم ولم تلبّى شهواتهم إلى العنف والتخريب والتدمير وضعوا فيها نصوصًا لا نشك أنها زائفة ومحرفة لكن ما يزالُ بنو اسرائيل يعملون بها حتى اليوم فهذا الاصحاح العشرون من سفر التثنيّة من أسفار التوراة تقول الفقرة عشرة منه: “حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك وإن لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف و أما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة فتغنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي اعطاك الرب إلهك هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك يعني (مثل الفلسطينيين والأردنيين والمصريين ومن إليهم) فلا تستبق منها نسمة مّا بل تحرمها تحريمًا الحِثّثيين والأموريين والكنعانيين والفِرِزّيين والحوّيين واليبوسيين كما أمر ربك الربُّ الهك”
لا نعتقد أنّ بإمكان أيّ باحث أنّ يعثر على نص مثل هذا في القرآن المجيد ولا في دواوين السُنة بما في ذلك كتب الموضوعات -فهي كما يرى أي قارئ منصف-تقطر عداوة وارهابًا وسمًا وعنفًا ولكن حين يتحدث الصهاينة اليوم يتحدثون عن السلام وثقافة التسامح، وأن الإرهاب وثقافة الإرهاب في الإسلام وحده هو المسؤول عنها، وتراث المسلمين وحده الحافل بها، وتعمى الأبصار بما في ذلك أبصار هؤلاء الذين نصبوا من أنفسهم خنازير تشمشم في خرائب التراث وبعض شطحات ناقليه لتكشف أسوأ ما فيه لترفع عقائرها بالليل والنهار وبالفضائيات قائلة: “ألحقوا..ألحقوا.. أدركوا البشرية من تراث المسلمين الذي ملأه الفقهاء والمفسرون بالعنف والتحريض والإرهاب”، ونحن لا ندّعي خلو تراثنا المنتج في فترات أفولنا الحضاري وتراث ثقافة ما بعد الموحدين -كما يقول مالك بن نبي- من مشكلات كهذه، فلدينا في تراثنا لهذه الفترات الاستثنائيّة مع ما لا ينسجم مع كتاب الله (عز وجلّ) ولا هدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا مع سير الخلفاء الراشدين المهديّين، بل ينسجم مع مصادر ثقافات العنف لدى أمم أخرى سبقت فتعامل معها بعض المنسوبين إلى مدارس فقهيّة ونحوها فتعاملوا وفق الآية الكريمة ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ (البقرة: 194) وهو خيار من الخيارات لكن الاختيار الأفضل
﴿ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾(البقرة: 109)
﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾(البقرة:237)
فهل يصلح ذلك لتعميم الحكم على تراثنا كلّه؟!
…… يتبع