Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

دردشة حول فقه النساء 1

أ.د/ طه جابر العلواني

الحمد لله نستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدي الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى آله وصحبه، ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم لقاه، ثم أمَّا بعد:

فما درست بابًا من أبواب الفقه اختلطت فيه الأعراف والتقاليد والعادات مع شيء من الفقه كما هو في قضايا المرأة، بحيث لا تجد في كل حكم -تقريبًا-مما قاله الفقهاء أو حكموا به خلوا من هذه التركيبة بينًا ظاهرًا (أعراف + تقاليد + عادات) ثم تضفي عليها العباءة الفقهية لتمنحها طبيعة الإلزام.

وقد حمل الفقهاء على أن يضموا لأصحاب الأعراف والعادات والتقاليد بعض الأحاديث التي صح أقلها في سياقات معينة، ولو لوحظت تلك السياقات ومنها أسباب الورود وطبيعة الوقائع التي وردت فيها وابتعدت عن صفة الإطلاق، وقرأت بنسبيّتها، لما سقط فقيه بقول يستطيع بكل سهولة لو رجع إلى القرآن المجيد أن لا يقوله أو أن يتوقف فيه، فالقرآن المجيد نص منذ البداية على مشاركة الرجل والمرأة في ابتداء النوع:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء ..﴾(النساء:1)، وما أعذب ألفاظ القرآن حين عبر بالنفس الواحدة وعبر عن الأخرى بزوجها دون تحديد الذكر والأنثى، فكلمة زوج تطلق على المرأة وعلى الرجل، فكل منهما يجعل الفرد زوجًا بعد أن كان فردًا، فيقال للمرأة زوج فلان، ويقال للرجل زوج فلانة، ثم شرك بينهما في المسؤوليَّة، ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾(الأعراف:189) ﴿ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا﴾ أي كلاهما النفس والنفس الأخرى، ﴿.. فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(الأعراف:189-190)، فشرك بينهما في مسؤوليَّة الشرك.

وقال (جل شأنه):﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾(آل عمران:195) فشرك بينهما في المصير والمآل.

فقاعدة الزوجيَّة أرسيت دعائمها على تلك التسوية القرآنيَّة بين الزوجين، الذكر والأنثى، ولكن هناك فاعلًا ومنفعلًا في قوانين الزوجيَّة، لا يفضل الفاعل المنفعل بشيء، ولا يفضل المنفعل الفاعل بشيء، إذ إنَّ لكل منهما أدوارًا قام بتحديدها العليم الخبير: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾(الملك:14)، والوظائف شيء والحقائق شيء آخر، فحقيقة التساوي هي الحقيقة الأساس والأصليَّة بين الذكر والأنثى، وأيَّة أمور أخرى طارئة لا تغير في هذا الأساس ولا تنفيه، فالتساوي بينهما في الأصل في المنشأ والمعاد، وسائر الأعمال، لا يخل فيها هذا الاختلاف في دور كل منهما في الفعل والانفعال والتوليد والإنجاب، بل يؤكد ضرورة كل منهما للآخر، فالرجل لا يحمل ولا يضع ولا يرضع، لا لأنَّه له ميزة بل لأنَّ له دورًا آخر لابد له أن يؤديه، وللمرأة دور آخر لابد لها أن تؤديه، وجماع الدورين وملتقاهما ضروريّ جدًا للتوليد، ودوام النوع وبقائه، فلا ينفرد أي منهما بذلك، بل لابد من أن يكونا معًا ويجتمعا معًا؛ لكي يحققا المطلوب، ويولد المولود؛ ولذلك فإنَّ الله (تبارك وتعالى) جعل اللقاء البيولوجي بينهما لقاء تحدث عنه في منتهى الشفافية، فقال:﴿. فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ..﴾(الأعراف:189)فلما تغشاها، فكأنَّ اللغة هنا التي استعملها القرآن المجيد اختارت هذه الكلمة ورجحتها على أيَّة كلمة أخرى، وهناك كلمات كثيرة كان يمكن أن تعطي المعنى، ولكن لما يمكن أن تضيف إليه من ظلال كما لو قال فلما علاها، فإنَّ القرآن المجيد بسحر بيانه وتحدي ألفاظه اختار لفظًا لا إيحاء فيه ولا يجعل من الوطاء شيئًا أشرف من الغشاء ولا العكس، فهما شريكان متساويان في مسؤوليَّة الحمل ثم ما يتلوه.

وذلك يجعل المسؤوليَّة مشتركة والأهليَّة في التكليف متساوية، والدور العمراني لكل منهما واحدًا، إضافة إلى وحدة المبدأ والمعاد، والسيرورة والغاية والمقصد. لكن القرآن الكريم لم ينظر إليه المتعاملون معه خاصَّة من الفقهاء الذين تأثروا بالأعراف والعادات والتقاليد على أنَّه المصدر المنشئ للأحكام وحده، والكاشف عنها بمفرده بل نظروا إلى السنن بمثل نظرتهم إلى القرآن بل خيرًا منها، فأعطوا تلك السنن صفة الإطلاق، وأحلوها محل القرآن المجيد، وسهل عليهم التعامل معها لاتّصالها الوثيق -بنسبيتها- بالعادات والأعراف والتقاليد، فكانت النتيجة أن اضطربت أقوال كثير من المفسرين والفقهاء والمحدثين؛ ليخرجوا لنا بمجموعة تصورات وآراء فقهيَّة لا تمثل وجهة القرآن بشأن المرأة، ولا السنة النبويَّة، بل تمثل أعرافًا وتقاليد وعادات اجتماعيَّة أضفيت عليها عباءة فقهيّة لتدعيمها وتعضيدها وإعطائها مبدأ الإلزام.

والفقيه المعاصر حين تُعرض له هذه الأحكام الفقهيَّة وهو يرى الأمَّة تخوض معركة هُويَّة تستنصر فيها بالأصالة ضد المعاصرة، وبالتراث ضد الحداثة، وبالأمر الأول ضد الأمور المبتدعة؛ وجد نفسه في حيرة، فهو إن تخلى عن الفقه بحسب ظنه فكأنَّه تساهل في تسييل هُوية الأمَّة، وأصالتها، وتراثها، وفتح الأبواب لأعدائها ليدمروا ما بقي لها من مقومات الهويَّة ومعالم الأصالة، وإن تشبث بأذيال تلك المقولات الفقهيَّة والتفسيريَّة فقد أوى إلى ركن ضعيف، لا يستطيع به أن يقاوم جدل المعاصرة، وهجمات الحداثة، وتيارات النقد والتفكيك في عصرنا هذا.

فما الموقف السليم؟

لا شك أنَّ عصرنا قد تغيَّر كثيًرا عن عصور الفقهاء المؤسسين للفقه، فنحن نعيش في عصر يُشكل النقد فيه وتفكيك المقولات أهم الأدوات المعرفيَّة، ويشكل فيه صراع الحداثة والمعاصرة منطلقًا أساسًا في صياغة وصناعة قواعد التفكير الإنساني المشتركة، وهذه القواعد قواعد التفكير المشتركة صاغتها حضارة مغايرة في مبادئها وأهدافها وغاياتها، لا تستطيع أن تقتنع بمجرد فتوى، أو قول فقيه، حتى لو حظيت بما عرف بإجماع المتقدمين، ولم تترك شيئًا أو مساحة أو مرجعًا أو مصدرًا إلا وفتحته أمام النقاد، وأصحاب التفكيك.

 والفقه من أوائل المعارف النقلية التي فتحت أمامهم، فوجدوا فيها مقولات من المتعذر قبولها كما هي، دون إعادة قراءة، ودون تفسير وتأويل مقنع، في مقدمة هذه الأمور قضيَّة الولاية على المرأة، والقوامة، والضرب، وكثير من قضايا النكاح، والطلاق، وبلغ الحال حد الاعتراض على أنصبة المواريث، وما إلى ذلك، والفقيه المسلم في موقف لا يحسد عليه، فهذه أحكام بعضها عليه أدلة لا يستطيع التلاعب بمدلولاتها، ولا يمكنه تأويلها ليسمح لنفسه بالتحلل من المراد بها، ويرى أنَّ الالتزام بها ينتقل به من دائرة الفقه إلى دائرة العقيدة، وهنا يتهيَّب آلاف الفقهاء أن يقولوا شيئًا غير ما قاله المتقدمون، وأحسن ما يفعله أن يؤكد عليها، ويتأولها تأويلات يستعين بأقوال المتقدمين المخالفين أيضًا على صياغتها، والغالب أنَّها لا تقنع أبناء هذه الأجيال، أجيال النقد والتفكيك، وأمَّا الاتجاهات الحداثيَّة فإنَّها ماضية في عمليَّات التفكيك، تفكيك الإنسان والكون والتاريخ والدين والحياة، ذلك التفكيك الذي نجح في أوروبا وفي أمريكا وفي سائر البلدان التي تأثرت بقواعد التفكير الإنسانيَّة المشتركة.

فهل يعني ذلك أنَّ المسلمين سيستمرون في جدل لا ينقطع حول هذه الأمور؟ ولما؟ وكيف يخرجون منها؟

إنَّ المخرج منها هو مصدر واحد كتاب الله (جل شأنه)، فيه نبأ من قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا، فالالتزام به والاعتصام بحبله والتنازل عن أيَّة أقوال مهما عظم قائلوها مما لا يتفق معه ولا ينسجم مع آياته التي فيها الحل لهذه المشكلات كلها، وفيها المخرج من هذه الأزمات جميعها.

لا يقولن أحد: إنَّنا نجد في ذلك تجاوزًا للسنة النبويَّة، وللفقه الذي بني عليها، والأصول التي تكونت لإنتاج ذلك الفقه، فإنَّ الكتاب الكريم باتفاق أهل العلم هو المصدر الوحيد المنشئ للأحكام، والسنة بيان عملي تطبيقي لآياته، وتأويلها وتفسيرها، وحملها على الوقائع يبقى عبارة عن اجتهادات شخصيَّة لأولئك الفقهاء، يؤخذ منها ما ينسجم وكتاب الله، ويرد ما لم يشهد له الكتاب الكريم، أمَّا ما يشهد الكتاب الكريم له فلابد من حسن قراءته وتلاوته، واستخراج حكمته، وقراءته في سياقاته، والعناية بكليَّاته، ومقاصده، وقراءة جزئيَّاته في ضوء كليَّاته، ومقاصده.

كما أنَّ القرآن المجيد الذي حصر الله الحكم فيه: ﴿..إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ..﴾(يوسف:40)، وجعل فيه (جل شأنه) القدرة على التصديق والهيمنة، فصدق على تراث الأنبياء السابقين أي أعاده إلى حالة الصدق، وهيمن عليه، فهو قادر على أن يصدق على تراثنا وعلى سنة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويبين لنا الصادق منها من غيره، والمقبول منها من المردود، ويقدم لنا البدائل.

فكيف يكون ذلك؟

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *