أ.د/ طه جابر العلواني
شهدت اليمن أنواعًا كثيرة من الاستبداد قديما وحديثا، أحدث فيها من الآثار السلبيّة الكثير، ولسنا في معرض سرد تاريخ اليمن والمستبدين الذين ظهروا في مختلف العصور، لكن المستبد الذي نرجو أن يكون آخر الأحزان الجاويش علي عبد الله صالح قد أفقد اليمن أكثر مما فقدت في ظل حكم مستبدين سبقوه، لقد أفقدها حكمتها والحكمة كانت يمنية وأضاع صوابها، وغلب هذا الجاويش المستبدين على كثرتهم وسبقهم وضرب في الاستبداد أرقامًا قياسية، فما عرفت اليمن مستبدًا مثله سلب البلاد كل ما فيها ليحوله إلى جزءٍ من ممتلكاته؛ مواردها أموالها جيشها طيرانها كنوزها ثرواتها إضافة إلى كرامة أبنائها وحقوقهم، فهو استبداد من نوع خاص متطور جدًا وجشع للغاية بشكل لا يبقي ولا يذر، ومفسد في الأرض بحيث حوّل الفساد إلى نظام ظاهره أنه نظام وباطنه من قبله الفساد والاستعباد.
التوحيد والاستبداد:
وقد صار لديّ يقين بأن الاستبداد أخطر شيء على الإيمان والتوحيد، فيفترض ألا يظهر الاستبداد وبهذه الأشكال البشعة المرعبة بين شعوب تقول: (لا إله إلا الله* محمد رسول الله)، فالاستبداد شرك يناقض التوحيد، فالمستبد ينازع اللهَ ملكَه، فلا ينظر إلى ما خوله الله من نعمة وسلطان على أنه مستخلف فيه ومحاسب عليه يوم القيامة وأنَّ من حق الناس أن يحاسبوه عليه في الحياة الدنيا، لكن الاستبداد يعتبر نفسه هو الخالق للنِّعَم وهو المنشئ لها، فالشعب كله يأكل على حسابه ويشرب على حسابه ويلبس على حسابه، لأنّ الشياطين من الجن والإنس والانتهازيين من الإنس يخدعون هذا المستبد عن نفسه، ويصورون له أنه المنعم المتفضل ليس مجرد أجير عند شعبه بدرجة ملك أو رئيس أو سلطان أو أيّ تسمية أخرى، بل يرى نفسه أنه النعمة التي أنعم الله بها على شعبه فهو مبعوث العناية الإلهية والمختار منه -جل شأنه- لاستعباد عبيده هؤلاء؛ لذلك فإن الأمم الحية تضع كل الضوابط الممكنة للحيلولة بين الحاكم والاستبداد.
وقد وضع الإسلام لذلك الكثير من الضوابط والضمانات، لكن المسلمين أضاعوها فانتشرت الانتهازية والتملق والنفاق، ولم يحصروا الحمد بالله (جل شأنه)، ولم يتعلموا من سورة الفاتحة التي يفترض بكل مؤمن ومؤمنة أن يقرأها سبع عشرة مرة في اليوم والليلة كحد أدنى، ليتذكر أن الحمد منحصر في الله رب العالمين وهو مالك الدنيا والآخرة وهو واحدٌ جديرٌ بكل أنواع العبادة والتسبيح والحمد والتقديس، وهو وحده الجدير بأن يستعان به ويستجار به ويطلب الإنسان منه الهداية والحماية من سلوك طُرق الغواية وسُبل الضالين ومناهج المنحرفين.
لو أن المسلمين فقهوا الفاتحة وحدها لكان فيها ما يكفي للحيلولة بينهم وبين الوقوع في أي نوع من أنواع الاستبداد وقبوله ومعايشته حتى يستغلظ سوقه وتترسخ أقدامه ويأتي آنذاك الدمار الشامل.
سأل صدام حسين وزيرَ أوقافه عما إذا كانت تجب عليه الزكاة؟ فقال الوزير: نعم يا سيدي تجب عليك الزكاة إذا ملكت النصاب وقدره كذا، فقال له: ألا ترى أنني أطعم ثمانية عشر مليونا من العراقيين، وذلك كان تعداد السكان حين سأل الرئيس القائد وزير أوقافه أفلا يكفي ذلك عن الزكاة، فذلك الفقير المعدم صار بين ليلة وضحاها هو الذي يطعم العراقييّن كلّهم ويسقيهم، لإحساسه بأنه قد ملك الأرض ومن عليها والدولة بكل مفاصلها، وبالتالي من حقه أن يضطهد من يشاء ويكرم من يريد، وهكذا فعل المستبدون قبله والمستبدون بعده، فعلها المالكي وفعلها من خلفوه ويفعلها علي عبد الله صالح في اليمن، وإذْ لم تشبع مواردُ اليمن الضئيلة جوعَه أخذ يوظف أعدادا هائلة في الجيش والشرطة بأشكال وهميّة ويأخذ مرتباتهم ويستولي على الجيش فيحوله من جيش لليمن إلى جيش خاص به وكذلك الشرطة إضافة إلى الأجهزة المختلفة.
كل ذلك والناس يراقبون ويسمعون، وبعض المثقفين يعملون معه، يسندون نظامه ويجعلون من أنفسهم قواعد لنظامه الفاسد مقابل الفتات الذي يلقيه إليهم، ويظل في السلطة ثلاثة وثلاثين عامًا فإذا ملّه الناس وتطلعوا إلى التغيير جاءهم بابنه ليفرضه عليهم، لأنه لا يستطيع أن يفارق كرسيّ السلطة بعد أن طال به الأمد وقسا قلبه وترسخت قناعاته بأنه يملك الأرض ومن عليها.
لقد سرق وأفسد وبنى نظامًا كاملا على الفساد، فالنظام كله أصبح منظومة فساد لا ترى إلا ما يراه ولا تسمع إلا ما يريدها أن تسمع وهكذا، فإذا لم يتمكن من تولية ولده فلا مانع من تدمير تلك الأرض ومن عليها والقضاء على الحياة فيها، لأنها في نظره قد كفرت به بعد أن آمنت، وأشركت به بعد أن رضيت به ردحًا طويلا من الزمن الزعيم الأوحد والقائد الفذ، المطعم المنعم المعطي المانع بل المحي المميت، فيستطيع أن يلقي بمن لا يعجبه في غياهب السجون، أو يقضي عليه بأيّ حادث مفتعل، لأيّ سبب من الأسباب حتى لو كان من أتباعه المخلصين، وأما من استمر في خضوعه وعبوديته فذلك وحده الذي يستحق عنده الحياة والتنعم بلذائذها.
كان بإمكان أمتنا أن تستيقظ في أيّة مرحلة من مراحل تاريخها الطويل وتدرك أن القبول بالاستبداد هو شرك ينافي التوحيد، وأن السكوت عن المستبد هو سكوت عن الكفر البواح والشرك الصراح، لكن ذلك لم يكن يتأتى إلا من أفراد قلائل، لأن الركن السادس من أركان الإسلام وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد عُطِّل ولم يعد أحدًا يتعاطاه أو يقوم به إلا في أضيق الحدود.
إنه لا يجتمع القرآن والاستبداد في قلب واحد، ولا يجتمع الإيمان والشرك في قلب واحد، فكيف آل أمرُ هذه الأمة مع الاستبداد والمستبدين إلى هذا المستوى، فمستبد في اليمن قضى على سعادته التي اشتهر بها اليمن السعيد، وقضى على حكمته، وجعل مواطنيه يضرب بعضهم رقاب بعض، أفقرهم وهم يعيشون على أرضٍ قدّر الله فيها أقواتها، وجعل خيراتها تكفيهم بل تكفي من يجاورهم فيها، ودمر علاقات كان يسودها الإخاء والتضامن والتسامح والتكافل.
هذه النماذج كنا نظن أن البشرية وقد وصلت إلى ما وصلت إليه من تقدم علميّ وتِقنيّ جعلها تتجاوز كثير من أزماتها ومشكلاتها.
لابد لنا نحن المسلمين في اليمن وفي غيره أن نتجاوز كل هذه الجراحات النفسية، التي تجعل منا نهبًا للمستبدين وميدانًا للتنفيس عن أمراضهم وعُقدهم وانحرافاتهم، إننا في حاجة إلى إنشاء وعيٍ جديدٍ بالاستبداد وصفات المستبدين وكيف يوجد الاستبداد ومن الذي يوجده ومن المسئول عنه ونغير ذلك كله، فقد تعلمنا من قواعد فِقْهنا: “أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، والله قد أوجب علينا العدل والمساواة واحترام حقوق الناس وكراماتهم وحريّاتهم، وشددّ على عدم الاستيلاء على أموالهم أو إذلالهم أو تحقير شأنهم، والاعتداء على حرياتهم ومصادرة أموالهم وسرقة بلدهم وإذلال أعزتهم وشلّ طاقاتهم، كل ذلك ينافي الإيمان، ولا يمكن لإيمان المؤمن أن يكتمل ويكون شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، إلا إذا توافرت أسباب كثيرة تسمح لشجرة التوحيد أن تنبت وتستقر.
إننا في حاجة إلى إعادة الفهم لعقيدتنا، لو كان لي من الأمر شيء لغيرت البرامج التعليمية خاصة تلك المتعلقة بالعقيدة والإيمان والتوحيد، ولأدرجْت في هذه المادة كل ما يتعلق بالاستبداد والمستبدين، وبيّنَّا كيف يجتال الاستبدادُ الناسَ عن إيمانهم ويحرف لهم معتقداتهم ويشوش رؤاهم ويدمر علاقتهم بالله -جل شأنه- وكيف ينصّب المستبد نفسه إلهًا، يطيعونه متى أمر أو نهى، يستخف القوم فيطيعوه، يقول لهم: ما أريكم إلا ما أرى وأنا ربكم الأعلى وما علمت لكم من إله غيري، ولا يصلح لكم زعيم سواي ولا قائد لكم إلا أنا، فإذا قُدر لي أن أغيب عنكم فلابد أن يحكمكم واحد من صلبي، يرثني ويرثكم مثل ممتلكاتي الخاصة، فأنا نصيبكم في الحياة وأنتم جزء من نصيبي فيها، فإن لم تكفني مواردكم فلا مانع أن أطلب المعونات باسمكم وأضعها في خزانتي، وأبيع تاريخكم وحضارتكم وأبيعكم أنتم أنفسكم، فإذا لم يكف ذلك -ولا يملأ جوفَ بني آدم إلا التراب- فلا بأس بتجارة السلاح والاتصال مع المافيا والدخول في عالم المخدرات والمسكرات وأيّ شيء يأتي بالمال، وإذا لم يعد عندي إلا دماؤكم فلتُرق الدماء ولتُصبغ بها بيوتكم ومدنكم وشوارعكم وحواضركم.
إنّ الاستبداد خراب، ولذلك فمن الحكمة التي جاءنا بها الوحي، أن توحيد الله -جل شأنه-حق توحيده والوعيَ بهذا التوحيد يفترض أن يكون حائلا بيننا وبين الاستبداد أيّا كان نوعه ومن أيّ وعاء خرج.
إن الله تبارك وتعالى أمرنا أن ندعوا أهل الكتاب بأن نقول لهم تعالوا إلى كلمة سواء: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 64)، ونحن نقول اليوم للمؤمنين في اليمن والعراق وسوريا وليبيا وفي كل مكان: تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ، ألا نعبد علي عبد الله صالح ولا الحوثيين، ولا آيات الله ولا المراجع ولا الولي الفقيه، ولا الولي الميّت أو الحي ولا الرئيس ولا الملك ولا السلطان ولا الخليفة ولا سواه؛ فذلك قتلٌ لتوحيد الألوهية والربوبية معًا.
يا أمة محمد لا منقذ لكِ مما أنت فيه لا في اليمن ولا في سواه إلا الرجوع إلى كلمةٍ سواءٍ ألا نعبد إلا الله، لا نعبد حاكمًا ولا عالمًا ولا قاضيًا ولا سواه، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا، سواء كانوا قادة أحزاب أو تجمعات أو تكتلات أو مذاهب أو طوائف، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تَوليْتم عن ذلك ورفضتموه فاعلموا أنكم جعلتم الإيمان في شقٍّ وهذا الاختيار في شقٍّ آخر.
أجيبوا داعي الله وارفضوا الاستبداد، فإن الاستبداد في بدايته يكون ضعيفًا ولكنه حين يستفحل ويطول عليه الأمد ويتصلّب عوده، فإنه قد يُكلّف الأمة حياتها كلها، نسأل الله -سبحانه وتعالى-أن يمنَّ على هذه الأمة المسكينة المرحومة بوعيٍ يجعلها قادرة على الخروج من أزماتها والقيام بوجباتها إنه سميع مجيب.